التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا صلى خمسًا

          ░20▒ بابُ إِذَا صَلَّى خَمْسًا.
          1226- ذَكَر فيه حديث عَلقَمةَ عن عَبْدِ الله: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ: أَزِيدَ فِي الصَّلاة؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ).
          هذا الحديث تقدَّم في باب ما جاء في القِبلة [خ¦404]، وهذا الحديث دالٌّ لمذهب مالكٍ وأبي حنيفةَ، وقد تقدَّمَ مِن أدلة مَن رجَّح أنَّه قبل السلام حديثُ أبي سعيدٍ، وأنَّ عطاءً أرسله.
          وحديث ابن مسعودٍ لا مزيد على إسناده في الجودة، وكذا ما في معناه، والخبرُ السَّالف اضطُرِب في وصله وإرساله. وحاصل المذاهب سبعةٌ:
          كلُّه بعد السلام، قاله أبو حنيفةَ.
          كلُّه قبله، قاله الشافعيُّ.
          الزيادةُ بعدَ والنَّقصُ قبلَ. وكذا إذا اجتمعا، قاله مالكٌ.
          المتيقَّن أنَّه نقص والسهوُ المشكوك فيه قبلَه، والمتيقَّنُ أنَّه زيادةٌ بعد، قاله ابن لُبَابة، وذكر الدَّاوديُّ نحوه عن مالكٍ.
          الكلُّ سواءٌ، قاله مالكٌ في «المجموعة».
          يسجد للنقص فقط دون الزيادة، قاله علقمةُ والأسودُ.
          إذا اجتمع سهو نقصٍ وزيادةٍ سجدهما، قاله الأوزاعيُّ وعبدُ العزيز.
          واختلف العلماء فيمن قام إلى خامسةٍ، فقالت طائفةٌ بظاهر هذا الحديث: إن ذَكَر وهو في الخامسة قبل كمالها رجع وجلس وتشهَّد وسلَّم، وإن لم يذكر إلَّا بعد فراغه مِن الخامسة فإنَّه يسلِّم ويسجد للسهو وصلاته مجزيةٌ عنه، هذا قول عطاءٍ والحسنٍ والنَّخَعيِّ والزُّهريِّ، وإليه ذهب مالكٌ والأوزاعيُّ والليثُ والشافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ.
          وقال أبو حنيفةَ: إذا صلَّى الظهر خمسًا ساهيًا نظر فإن لم يقعد في الرَّابعة قدر التشهُّد فإنَّ صلاة الفرض قد بطلتْ، ويضيف إلى الخامسة سادسةً، وتكون نافلةً، ويعيد الفرض، وإن جلس في الرابعة مقدار التشهُّد فصلاته مجزئةٌ، ويضيف إلى الخامسة سادسةً وتكون الخامسة والسَّادسة نفلًا، وإن ذكر وهو في الخامسة قبل أن يسجد فيها ولم يكن جلس في الرابعة رجع إليها فأتمَّها كما يقول، وسجد للسهو بعد السلام.
          ولا ينفكُّ أصحاب أبي حنيفةَ في هذا الحديث مِن أحدِ وجهين: إمَّا أن يكون صلعم قعَد في الرابعة قدرَ التشهُّد، فإذا سجد ولم يزِد على الخامسة سادسةً أو لم يقعد فإنَّه لم يُعِد الصَّلاة، وهم يقولون قد بطلت صلاتُه، ولو كانت باطلةً لم يسجد صلعم للسهو، ولأعاد الصَّلاة. وعبارة شيخنا قطب الدِّين في تحرير مذهب أبي حنيفةَ: ذهب أصحابه إلى أنَّه إن سها عن القعدة حتَّى قام إلى الخامسة رجع إلى القعدة ما لم يسجد للخامسة، وذلك لأنَّه لم يستحكم خروجُه مِن الفرض وألغى الخامسة، لأنَّ ما دون الركعة ليس له حكم الصَّلاة بدليل النهي، ويسجد للسهو لتأخير الواجب، وإذا قيَّد الخامسة بسجدةٍ / استحكم دخولُه في ركعةٍ كاملةٍ في النَّفل فخرج به عن الفرض قبل تمامه فبطلت صلاته، وإن كان قعد في الرابعة مقدارَ التشهد ثمَّ سها وقام إلى الخامسة وقيَّدها بسجدةٍ ضمَّ إليها ركعةً أخرى، وتمَّت صلاته، وكانت الركعتان له نافلةً ويسجد للسهو.
          قالوا: وحديث ابن مسعودٍ محمولٌ عندهم على ما إذا قعد في الرابعة مقدارَ التشهُّدِ، وذلك لأنَّ الراوي قال: (صَلَّى خَمْسًا). ولا ظُهر بدون ركنهٍ وهو القعدة الأخيرة.
          قال السَّرخسيُّ منهم: وإنَّما قام إلى الخامسة على ظنِّ أنَّ هذه القعدة الأولى، والصحيح أنَّهما لا ينوبان عن سنَّة الظهر لأنَّ شروعه فيهما لم يكن عن قصدٍ، وفي صلاة العصر لا يضمُّ إلى الخامسة ركعةً أخرى بل يقطع التنفُّل بعد الفرض. وروى هشامٌ عن محمَّدٍ أنَّه يضيف إليها ركعةً أخرى، وكذا روى الحسن عن أبي حنيفةَ، وهو الصحيح لأنَّ الكراهة إنَّما تقع إذا كان التنفُّل بعده عن قصدٍ.
          وفي «قاضي خان»: إذا قعد قدْرَ التشهُّد، روى البَلْخيُّ عن أصحابنا أنَّه لا يتابعه القومُ لأنَّه أخطأ بيقينٍ، ولكن ينتظرونه قعودًا حتَّى يعود، ويُسلِّموا معه، فإن قيَّد الخامسة بالسَّجدة سلَّم القوم.
          ثمَّ الحديث دالٌّ لمذهب مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ والجمهور أنَّ مَن زاد في صلاته ركعةً ناسيًا لا تبطُلُ صلاتُه، بل إن علم بعد صلاته فقد مضت صلاتُه صحيحةً، ويسجد للسهو إن ذكر بعد السلام بقريبٍ، وإن طال فالأصحُّ عندنا أنَّه لا يسجد، وإن ذكر قبل السلام عاد إلى القعود، سواء كان في قيامٍ أو ركوعٍ أو سجودٍ أو غيرها، ويتشهَّدُ ويسجد للسهو ويسلِّمُ.
          والزيادة على وجه السهو لا تُبطِل الصَّلاة، سواء قلَّت أو كثرت إذا كانت مِن جنس الصَّلاة، فلو زاد ركوعًا أو سجودًا أو ركعةً أو ركعاتٍ كثيرةً ساهيًا فصلاته صحيحةٌ في كلِّ ذلك، ويسجد للسهو استحبابًا لا إيجابًا.
          وحكى القاضي عياضٌ عن مذهب مالكٍ أنَّه إن زاد نصف الصَّلاة لم تبطل صلاته بل هي صحيحةٌ ويسجد للسهو، وإن زاد النصف فأكثر فمِن أصحابه مَن أبطَلَها، وهو قول مُطَرِّفٍ وابن القاسم، ومنهم مَن قال: إن زاد ركعتين بطلت، وإن زاد ركعةً فلا، وهو قول عبد الملك وغيره.
          وقال ابن قُدَامةَ: متى قام إلى خامسةٍ في الرباعيَّة أو إلى رابعةٍ في المغرب أو إلى ثالثةٍ في الصبح لزمه الرجوع متى ما ذكر فيجلس، فإن كان قد تشهَّدَ عَقِب الركعة التي تمَّت بها صلاته سجد للسهو وسلَّم، وإن كان ما تشهَّدَ تشهَّدَ وسجد للسهو ثمَّ يسلِّم. وذَكَر قول أبي حنيفةَ، وقال: ونحوُه قال حمَّادُ بن أبي سليمانَ، قال: وقال قَتَادةُ والأوزاعيُّ فيمن صلَّى المغرب أربعًا: يضيف إليها أخرى، فتكون الركعتان تطوُّعًا لقوله صلعم في حديث أبي سعيدٍ: ((ثمَّ يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم، وإن كان صلَّى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلَّى إتمامًا لأربعٍ كانتا ترغيمًا للشيطان))، أخرجه مسلمٌ، وفي أبي داودَ وابنِ ماجه: ((كانت الركعة له نافلةً والسجدتان))، ولنا حديث ابن مسعودٍ، يعني هذا. ثمَّ قال: والظاهر أنَّه صلعم لم يجلس عَقِب الرابعة لأنَّه لم ينقل، ولأنَّه قام إلى خامسةٍ معتقدًا أنَّه قام عن ثالثة، ولم تبطُل صلاته بهذا، ولم يضف إلى الخامسة أخرى، وحديث أبي سعيدٍ حُجَّةٌ عليهم أيضًا، فإنَّه جعل الزائدة نافلةً مِن غير أن يفصل بينها وبين التي قبلها بجلوسٍ، وجعل السجدتين شفعًا بها ولم يضمَّ إليها ركعة أخرى.
          ثمَّ في بعض طُرق هذا الحديث: ((فقيل: أزِيدَ في الصَّلاة شيءٌ؟ فقال: إنَّما أنا بشرٌ مثلكم أذكُرُ كما تذكرون، وأنسَى كما تنسَون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالسٌ. ثمَّ تحوَّل رسول الله صلعم فسجد)).
          وهو ممَّا يُستشكَل ظاهرُه، لأنَّ ظاهره أنَّه صلعم قال لهم هذا الكلام بعد أن ذكر أنَّه زاد أو نقص قبل أن يسجد للسهو، ثمَّ بعدَ أن قاله سجد للسهو، ومتى ذكر كذلك فالحكم أنَّه يسجد ولا يتكلَّم، ولا يأتي بمُنافٍ للصَّلاة، والجواب عنه مِن أوجهٍ:
          أحدها: أنَّ «ثُمَّ» هنا ليست لحقيقة الترتيب، وإنَّما هي لعطف جملةٍ على جملةٍ، وليس معناه أنَّ التحوُّل والسجود كان بعد الكلام، بل إنَّما كانا قبله. ويؤيِّده أنَّه جاء في حديث ابن مسعودٍ هذا: ((فزاد أو نقص، فلمَّا سلَّمَ قيل: يا رسولَ الله، أَحَدَثَ في الصَّلاة شيءٌ؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صلَّيتُ كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة، فسجد سجدتين ثمَّ سلَّم، ثمَّ أقبل علينا بوجهه فقال: إنَّه لو حَدَث في الصَّلاة شيءٌ لنبَّأتكم به، ولكن إنَّما أنا بشرٌ...)) الحديث. وهي صريحةٌ أنَّ التحوُّل والسجود كان قبل الكلام فتُحملُ الثانية عليها جمعًا بين الروايتين، وحمْلُ الثانية على الأُولى أولى مِن عكسه لأنَّ الأُولى على وفق القواعد.
          ثانيها: أن يكون هذا قبل تحريم الكلام.
          ثالثها: أنَّه وإن كان عامدًا بعد السلام لا يضرُّه، وهو أحد وجهي أصحابنا، أنَّه إذا سجد لا يصير عائدًا إلى الصَّلاة حتى لو أحدث فيه لا تبطل صلاته، والأصحُّ: نعم.
          وقولهم: (أَزِيدَ فِي الصَّلاة؟) سؤالُ مَن جوَّز النسخ على ما ثبت مِن العبادة، ويدلُّ على هذا أنَّهم كانوا يتوقَّعونه.
          وقوله: (وَمَا ذَاكَ؟) سؤالُ مَن لم يَشعُر ما وقع منه، ولا يقين عندَه ولا غلبة ظنٍّ.
          وقال ابن حِبَّان: إخبار / ذي اليدين أنَّ الشَّارع تكلَّمَ على أنَّ الصَّلاة قد تمَّت، وذو اليدين توهَّم أنَّ الصَّلاة رُدَّت إلى الفريضة الأولى فتكلَّمَ على أنَّه في غير صلاةٍ، وأنَّ صلاته قد تمَّت، فلمَّا استثبت صلعم أصحابَه، كان مِن استثباتِه على يقينٍ أنَّه قد أتمَّها، وجوابُ الصَّحابة له لأنَّه كان مِن الواجب الإجابة عليهم، وإن كانوا في الصَّلاة، فأمَّا اليوم فالوحي قد انقطع وأُقِرَّت الفرائض، فإن تكلَّمَ الإمام، وعنده أنَّ الصَّلاة قد تمَّت بعد السلام لم تبطل، وإن سأل المأمومين فأجابوه بَطَلت، وإن سأل بعضُ المأمومين الإمام عن ذلك بطلت صلاته، والعلَّةُ في سهو الشَّارع التعليم.
          والله الهادي إلى الصَّواب.