التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا لم يدر كم صلى ثلاثًا أو أربعًا سجد سجدتين وهو جالس

          ░6▒ بَابُ إِذَا لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا، سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ.
          1231- ذكر فيه حديثَ أبي هُرَيرةَ: (إِذَا نُودِيَ بِالصَّلاة أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ...) الحديث.
          سلف في باب الأذان، وتذكُّرِ الرجل الشيء في الصَّلاة. وذكرنا هناك أنَّه إنَّما يفعل الشيطان ذلك لئلَّا يشهد للمؤذِّن بما يسمعه منه لقوله ◙ ((لا يسمع مَدى صوت المؤذِّن...)) الحديث. فيفعل اللعينُ ذلك ضِرارًا، وذكرنا هناك غير هذا أيضًا.
          وقوله: (فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا) أي: أُقيمت الصَّلاة.
          وقوله: (فَإِذَا قُضِي التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ) قد سلف الخلاف في ضبط (يَخْطِرَ). وقال ابن التِّين: وقع هنا عند أبي الحسن بضادٍ غير مرفوعة _أي: غير مشالةٍ_ وقال: هكذا قرأ لنا أبو زيدٍ، والصَّواب: (يَخْطِرَ).
          وقوله: (حَتَّى يَظَلَّ) أي: لا يعرفُ كم صلَّى.
          ثمَّ اعلم أنَّ حديث أبي هُرَيرةَ هذا بخلاف حديث أبي سعيدٍ: ((إذا شكَّ أحدكم فليطرح الشكَّ، ولْيَبْنِ على ما استيقنَ ثمَّ يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم)). وذكر الطَّبريُّ عن بعض أهل العلم أنَّه يأخذ بأيِّهما أحبُّ لعدم التأريخ، ومنهم مَن رجَّحَ حديث أبي سعيدٍ بالقياس لأنَّ مَحمَلَ مَن شكَّ أنَّه لم يفعل، والركعة في ذِمَّتِه بيقينٍ، فلا تَبرأ بشكٍّ.
          وقال أبو عبد الملك: يُحمل حديث أبي هُرَيرةَ هذا على مَن استنكحه السهو، وقال: لو كان حكمه حكم حديث أبي سعيدٍ لبيَّنه، وردُّوه عليه، والأَولى أن يكون حديث أبي سعيدٍ مفسِّرًا له، وأن بعض الرواة قصَّر في ذكره، على أنَّ حديث أبي هُرَيرةَ حُمل على كلِّ ساهٍ، وأنَّ حكمَه السجود، ويرجع في بيان حكم المصلِّي فيما يشكُّ فيه وفي موضع سجوده مِن صلاته إلى سائر الأحاديث المفسِّرة، وهو قول أنسٍ وأبي هُرَيرةَ والحسنِ وربيعةَ ومالكٍ والثَّوريِّ والشافعيِّ وأبي ثورٍ وإسحاق، وما حمله عليه أبو عبد الملك هو ما فسَّره الليث ابن سعدٍ، وقاله مالكٌ وابن القاسم.
          وعن مالكٍ قولٌ آخر: لا يسجد له أيضًا. حكاه ابن نافعٍ عنه، وقال ابن عبد الحكم: لو سجد بعد السلام كان أحبَّ إليَّ، وقال آخرون: / إذا لم يدرِ كم صلَّى أعادها أبدًا حتَّى يحفظ، رُويَ عن ابن عبَّاسٍ وابن عُمَرَ والشَّعبيِّ وشُرَيحٍ وعطاءٍ وسعيد بن جُبيرٍ، وبه قال الأوزاعيُّ.
          وحُكي عن عطاءٍ وميمونِ بن مِهْرَانَ وسعيد بن جُبيرٍ قولٌ آخر: إنَّهم إذا شكُّوا في الصَّلاة أعادوها ثلاث مرَّاتٍ، فإذا كانت الرابعة لم يعيدوا. وهما مخالفان للآثار كلِّها، وكأنَّهما قَصَدَا الاحتياط، ولا معنى لمن حدَّ ثلاث مرَّاتٍ.
          فرع: لو غلب على ظنَّه التَّمام فهو شكٌّ عندنا وعند مالكٍ وأصحابه، وقيل: تجزئه لحديث ابن مسعودٍ في التحرِّي. وهو مذهب أبي حنيفةَ قال: مَن شكَّ في صلاته فلم يدرِ كم صلَّى فإن وقع له ذلك كثيرًا بنى على اجتهاده وغالب ظنِّه، وإن كان ذلك أوَّل ما عرض له فليستأنف صلاته.
          وحديث ابن مسعودٍ فيه: ((فليتحرَّ الصواب، فيتمُّ ما بقيَ ثمَّ يسجد سجدتين)) ذكره البخاريُّ في الأيمان والنذور كما ستعلمه. وهو لا يقوم، يتمُّ بل يستأنف، والحديث بخلافه.
          ورُوي عن مكحولٍ والأوزاعيِّ أنَّه مَن بنى على اليقين فليس عليه سجدتان، ومَن لم يبنِ فليسجد. ذكره الطَّبريُّ، وهو خلاف حديث ابن مسعودٍ وغيره في السجود لمن بنى على اليقين، وهو خلاف قول الفقهاء.