التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب صفة إبليس وجنوده

          ░11▒ بَابُ: صِفَةِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ
          قَالَ مُجَاهِدٌ: {يُقْذَفُونَ} [سبأ:53] يُرْمَوْنَ {دُحُورًا} [الصافات:9] مَطْرُودِينَ {وَاصِبٌ} [الصافات:9] دَائِمٌ، وَقَالَ ابْنُ عبَّاسٍ: {مَدْحُورًا} [الأعراف:18] مَطْرُودًا، يُقَالُ: {مَرِيدًا} [النساء:117] مُتَمَرِّدًا، بَتَّكَه: قَطَّعَهُ، اسْتَفْزِزْ: اسْتَخِفَّ، {بِخَيْلِكَ} [الإسراء 64] الفُرْسَانُ، وَالرَّجْلُ: الرَّجَّالَةُ، وَاحِدُهَا: رَاجِلٌ، مِثْلُ: صَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وَتَاجِرٍ وَتَجْرٍ، {لَأَحْتَنِكَنَّ} [الإسراء:62] لَأَسْتَأصِلَنَّ، {قَرِينٌ} [الزخرف:36] شَيْطَانٌ.
          الشَّرح: تفسير مجاهدٍ رواه الطَّبَريُّ عن الحارث حدَّثني الحسن حدَّثنا وَرقاء، عن ابن أبي نَجيحٍ، عنه به قال الطَّبَريُّ: والدُّحور مصدرٌ مِن قولك: دَحَرتُهُ أدْحَرُهُ دَحْرًا وَدُحُورًا، والدَّحْرُ: الدَّفعُ والإبعاد، يُقالُ منه: أَدْحَرُ عَنْكَ الشَّيءَ، أي: أدفعُه عنك وأُبعِدُه، وفي «تفسير عبد بن حُميدٍ» عن قَتادة: {دُحُورًا}) [الصافات:9] قَذْفًا في النَّار.
          قوله: (بَتَّكَهُ: قَطَّعَهُ)، قال قَتادة: يعني البَحيرة، وهي الَّتي نُتجت خمسةَ أَبْطُن، فكان آخرها ذكرًا شقُّوا أذنها ولم ينتفعوا بها، والتَّقدير: ولآمرنَّهم بتبتيك آذان الأنعام ولَيُبَتِّكُنَّها.
          وقوله: (اسْتَخِفَّ) يريدُ بالغناء والمزامير.
          وقوله: ({بِخَيْلِكَ} [الإسراء:64] الفُرْسَانُ)، قال ابن عبَّاسٍ: كلُّ خيلٍ سارت في معصيةٍ، وكلُّ رِجْلٍ مَشَتْ فيها، وكلُّ ما أُصيب مِنْ حرامٍ، وكلُّ ولد غِيَّةٍ فهو للشَّيطان.
          وقال غيره: مشاركته في الأموال: البَحِيرة والسَّائبة، والأولاد قولهم: عبد العُزَّى وعبد الحارث.
          وقوله: {لَأَحْتَنِكَنَّ} [الإسراء:62] لأستأصلنَّ، قيل: معنى احتنكَ مثل حنَّكَ الدَّابَّة، المعنى على هذا: لأسوقنَّهم حيث شئتُ، وقال الدَّاوُديُّ: معناه لأَستنزلنَّ.
          فصلٌ يتعلَّق بإبليس لعنه الله:
          قال ابن جَريرٍ: كان الله قد حسَّن خَلْقَهُ وشرَّفه وكرَّمه وملَّكه على سماء الدُّنيا والأرض، وجعله مع ذلك مِنْ خُزَّان الجنَّة، فاستكبر على ربِّه وادَّعى الرُّبوبيَّة، ودعا مَنْ كان تحت يده إلى عبادته، فمسخه الله شيطانًا رجيمًا، وشوَّه خَلْقَهُ، وسَلبه ما كان خوَّله، ولعنه وطرده عن سماواته في العاجل، ثمَّ جعل مسكنه ومسكن شيعته وتبَّاعه في الآخرة نارَ جهنَّم، ثمَّ ساق مِنْ حديث حجَّاجٍ عن ابن جُريجٍ، قال ابن عبَّاسٍ: ((كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أَشْرَفِ المَلَائِكَةِ وَأَكْرَمِهِمْ قَبِيلَةً، وَكَانَ خَازِنًا عَلَى الجِنَانِ، وَكَانَ لَهُ سُلطَانُ سَمَاءِ الدُّنْيَا وسُلطَان الأَرْضِ)).
          وعن ابن جُريجٍ عن صالحٍ مولى التَّوْءَمَة، وشَريك عن ابن عبَّاس قال: ((إنَّ مِنَ الملائكةِ قبيلةً مِنَ الجنِّ، وَكَان إبليسُ مِنْها)) وعن أبي صالح عن ابن عبَّاسٍ، ومرَّةً عن عبد الله وغيرهما مِنَ الصَّحابة: إنَّما سُمي قبيلة الجنِّ لأنَّهم خُزَّان الجنَّة، وقال ابن جُريجٍ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء:29] لم يقل بهذا إلَّا إبليسُ، وفيه نزلت هذه الآية، وكذا قاله قَتادة.
          وعن ابن عبَّاسٍ قال: ((إِبْلِيسُ مِنْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ المَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ: الجِنُّ، خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ، وَكَانَ اسْمُهُ الحَارِثُ، وَخُلِقَتِ المَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ مِنْ نُورٍ غَيْرَ هَذَا الحَيِّ)).
          ومَارجُ النَّار: هو لِسَان النَّار الَّذِي يكون في طَرفها إذا لهبت، وأوَّل ما سَكَنَ مِنَ الأرض الجنُّ، فأفسدوا فيها وسفكوا الدِّماء وقتل بعضُهم بعضًا، فبعث الله إليهم إبليس في جندٍ مِنَ الملائكة، وهم هذا الحيُّ الَّذِين يُقال لهم الجنُّ، فقتلهم إبليسُ ومَنْ معه، حَتَّى ألحقوهم بجزائر البحر وأطراف الجبال، فلمَّا فعل ذلك اغترَّ في نفسه وقال: قد صنعت شيئًا لم يصنعه أحدٌ، فاطَّلع اللهُ على ذلك مِنْ قلبه ولم يطَّلع عليه الملائكةُ الَّذِين كانوا معه.
          قال الرَّبيع بن أنسٍ: إنَّ الله تعالى خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجنَّ يوم الخميس، وذكر ابنُ مسعودٍ وغيرُه أنَّه لمَّا ملَّكه سماء الدُّنيا وقع في صدره كِبْرٌ، وقال: ما أعطاني الله هذا إلَّا لمزيَّةٍ لي على الملائكة، وعن ابن عبَّاسٍ: كان اسمه عزازيل، وكان مِنْ أشدِّ الملائكة اجتهادًا وأكثرِهم علمًا فارتدَّ.
          وقال ابن خَالَوَيْهِ في كتاب «ليس»: إبليسُ يُكنى أبا الكُرْدَوس، ويُقال: أبو مُرَّة، ومِنْ أسمائه أيضًا العَلبُ والسفيه والحارث، وأَبْلَسَ مِنْ رحمة الله أي: يَئِسَ، والإبلاس أيضًا: الانكسار والحزن.
          يُقال: أَبْلَس فلانٌ إذا سكت عمَّا قال، وقال الماوَرْديُّ في «تفسيره»: هو شخصٌ رُوحانيٌّ، خُلق مِنْ نار السَّموم، وهو أبو الشَّياطين، وقد رُكِّبت فيهم الشَّهوات، مشتقٌّ مِنَ الإبلاس، وهو الإِيَاس مِنَ الخير.
          فائدةٌ أخرى: عن سعد بن مسعودٍ قال: ((كَانَتِ المَلَائِكَةُ تُقَاتِلُ الجِنَّ، فَسُبِيَ إِبْلِيسُ، وكانَ مِنَ الجنِّ الَّذِين طَرَدَتهم الملائكةُ، وكان صغيرًا فتعبَّدَ معَ الملائكةِ، فَلَمَّا أُمِرُوا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ أَبَى هُوَ مِنَ ذَلِكَ)).
          قال الطَّبَريُّ: وقيل: إنَّ سبب هلاكِه كان مِنْ أجلِ أنَّ الأرض كان فيها قبل آدمَ الجنُّ، وبعث الله إبليس قاضيًا بينهم، فلم يزل يقضي بينهم بالحقِّ ألف سنةٍ حَتَّى سُمِّي حكمًا، فسمَّاه الله به، وأوحى إليه اسمه، فعند ذلك دَخَله الكِبْرُ، فتعظَّم وألقى بين الَّذِين كان بعثه إليهم حَكمًا البأسَ والعداوة، فاقتتلوا في الأرض ألفي سنةٍ حَتَّى إنَّ خيولهم كانت تخوض في دمائهم، وذلك قوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلقِ الْأَوَّلِ} [ق:15] فبعث الله عند / ذلك إليهم نارًا فأَحْرَقَتْهم، فلمَّا رأى اللَّعينُ ما نزل بقومه عَرج إلى السَّماء مجتهدًا في العبادة، حَتَّى خُلِقَ آدمُ.
          وفي «تفسير الجوزيِّ»: قَسَمَ إبليسُ جندَه فريقين، فبَعث فريقًا منهم إلى الإنس، وفريقًا إلى الجنِّ، فكلُّهم أعداءٌ لرسول الله صلعم.
          وفي «الدِّيباج» للخُتَّليِّ عن مجاهدٍ: كان إبليسُ على سلطانِ سماءِ الدُّنيا وسلطانِ الأرض، وكان مكتوبٌ في الرَّفيع الأعلى أنَّ الله ╡ سيجعل في الأرض خليفةً، وأنَّهُ ستكون دماءً وأحداثًا، فوجده إبليسُ فرآه دون الملائكة، فلمَّا ذكر اللهُ أمر آدم للملائكة أخبرهم إبليسُ بما رأى، وأسرَّ في نفسه أنَّه لا يسجد له أبدًا، فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ} الآية [البقرة:30].