التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ذكر الملائكة

          ░6▒ بَابُ: ذِكْرِ المَلَائِكَةِ
          (الْمَلَائِكَةِ): جَمع مَلَكٍ، قال ابن سِيدَهْ: وهو مخفَّفٌ عن مَلْأَكٍ، وقال القزَّاز: هو مأخوذٌ مِنَ الأَلُوكِ وهي الرِّسالة، وقد زعم قومٌ أنَّه يجوز أن يكون مِن المُلك لأنَّ الله قد جعل لكلِّ مَلَكٍ مُلْكًا، كمَلَك الموت ملَّكهُ قبض الأرواح، وكإسرافيل ملَّكهُ الله السور، وكذا سَائِرُهُم، ويفسد هذا قولهم ملائكةٌ بالهمز، ولا أصل له على هذا القول في الهمز، وقد جاء المَلَكُ جمعًا كمَا قال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة:17].
          قال البُخاريُّ: (وقال أنسٌ: قال عبد الله بن سَلَام للنَّبيِّ صلعم إنَّ جبريلَ عدوُّ اليهود مِنَ الملائكة)، وقال ابن عبَّاسٍ: ({لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} المَلاَئِكَةُ).
          3207- ثمَّ قال: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حدَّثَنَا همَّامٌ، عَنْ قَتادة، عن أَنَسٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ في الإسراء بطوله... ثمَ قَالَ: وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ قَتادة، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم فِي البَيْتِ المَعْمُورِ.
          وقال في موضعٍ آخر: حدَّثنا ابن بشَّارٍ، حدَّثنا غُندَرٌ، حدَّثنا شُعبة، عن قَتادة وقال لي خليفة: حدَّثنا يزيد بن زُرَيع، حدَّثنا سعيدٌ عن قَتادة عن أبي العالية، حدَّثنا ابن عبَّاسٍ فذكر حديث الإسراء.
          أمَّا تعليق أنسٍ فقد أسنده بعدُ فيما يأتي قريبًا عن محمَّد بن سلامٍ، عن مروان بن معاوية، عن حُميدٍ، عنه مطوَّلًا، وهو معنى قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} الآية [البقرة:97].
          وأمَّا أثر ابن عبَّاسٍ فرواه الطَّبَريُّ، عن محمَّد بن سعدٍ، حدَّثني أبي، حدَّثني عمِّي، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبَّاسٍ بزيادة: ((الْمَلَائِكَةَ صَافُّونَ تسبِّحُ للهِ ╡)).
          وروى نحوه مرفوعًا مِن حديث عُبيد بن سليمان، عن الضَّحَّاك بن مُزاحِمٍ، قال: كان مسروقٌ يروي عن عائشة بلفظ: ما في السَّماء الدُّنيا موضعٌ إلَّا عليه مَلَكٌ ساجدٌ أو قائمٌ، فذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165]، ثمَّ ساق عن عبد الله وعمر نحوَه، ورواه أيضًا عن مجاهدٍ وقَتادة والسُّدِّيِّ وابن زيدٍ.
          وحديث أنس عن مالكٍ يأتي في حديث الأنبياء [خ¦3887]، وأخرجه مسلمٌ أيضًا، وفيه هنا: ((بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ)).
          وفيه رؤية عيسى ويحيى في السَّماء الثَّانية، وفي الثَّالثة يوسفُ، وفي الرَّابعة إدريسُ، وفي الخامسة هارونُ، وفي السَّادسة موسى، وفي السَّابعة إبراهيم.
          وفي حديث أبي ذرٍّ أنَّه رأى إبراهيم في السَّادسة، وأخرجه مرَّةً مِنْ حديث شَريك بن عبد الله بن أبي نَمِرٍ، سمعت أنسًا يحدِّثنا عن ليلة الإسراء مِنْ مسجد الكعبة: جاءهُ ثلاثةُ نَفَرٍ قبلَ أن يُوحى إليهِ وهو نائمٌ في المسجد الحرام، فَلَمْ يَرَهم حَتَّى جاؤوا ليلةً أُخرى فيما يرى النَّائمُ، والنَّبيُّ نائمةٌ عيناهُ ولا ينامُ قَلْبُهُ _وكذلكَ الأنبياءُ_ فتولَّاه جبريلُ ثمَّ عرج بهِ إلى السَّماءِ.
          قال الإسماعيليُّ: جمع البُخاريُّ _أي: في حديث ابن عبَّاسٍ_ بين حديثَي شُعبة وسعيدٍ على لفظ سعيدٍ، ولم يفصِّله، وفي حديث سعيدٍ زيادةٌ ظاهرةٌ على ما في حديث شُعبة، ولفظه: ((مُوْسَى رَجُلٌ آدَمُ طُوَالٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ))، وقال: ((عِيسى جَلْد)) وفي لفظ: ((جَعْدٌ مَرْبُوعٌ)).
          فصلٌ: (مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ) جدُّه وهب بن عَدِيِّ بن مالك بن عَدِيِّ بن عامر بن غنم بن عَدِيِّ بن النَّجَّار، أخرج له مسلمٌ أيضًا، وعنه أنسٌ فقط، وفي الرُّواة ابن صَعْصَعة اثنان آخران:
          أحدهما: ابن ابنه زُفَرُ بنُ صعصعة بن مالكٍ، روى له ولأبيه أبو داود، وهما ثقتان.
          الثَّاني: قيس بن صعصعة بن وهبٍ شهد أُحدًا، أنصاريٌّ نجَّاريٌّ، وهو أخو مالكٍ، وأخوهما عبد الله.
          وقيس بن / أبي صعصعة، عمرِو بن زيد الخَزْرَجيُّ المازنيُّ عَقَبيٌّ بَدْريٌّ، أمير السَّاقة يوم بدرٍ، وهو قيس بن صعصعة روى حبَّان بن واسعٍ عن أبيه ((قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ))، وهذا أصحُّ.
          وفي «الموطَّأ» عن إسحاق بن عبد الله، عن زُفَرَ، عن أبيه، عن أبي هريرة، وعن أيُّوب بن عبد الرَّحْمَنِ بن عبد الله بن صعصعة، وأخوه رِفاعة.
          فصلٌ: وَهَّى ابنُ حزمٍ حديث شَريكٍ فقال: لم نجد للبخاريِّ شيئًا لا يحتمل مخرجًا إلَّا حديثَ شَريكٍ هذا، تمَّ عليه في تخريجه الوهمُ مع إتقانه وحفظه وصحَّة معرفته، وألفاظ هذا الحديث مُقْحَمةٌ مُنْكَرةٌ، والآفة مِنْ شَريكٍ، مِنْ ذلك:
          أوَّلُها: قوله (إنَّ ذَلكَ قَبْلَ أَنْ يُوْحَى إِلَيْهِ) وأنَّهُ حينئذٍ فُرضت عليه الخمسون صلاةً، وهذا بلا خلافٍ بين أهل العلم أنَّ ذلك كان قبل الهجرة بسنةٍ، وبعد أن أُوحي إليه باثنتي عشرة سنةً، فكيف يكون ذلك قبل أن يُوحى إليه؟ ولم يذكر مسلمٌ في «صحيحه» هذِه الزِّيادة.
          ومنها قوله: (فدَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)، وتبعه عبد الحقِّ فقال: زاد شَريك زيادةً مجهولةً، وأتى بألفاظٍ غير معروفةٍ.
          وقد روى حديثَ الإسراء جماعةٌ مِنَ الحفَّاظ المتقنين كابن شِهابٍ وثابتٍ البُنانيِّ وقَتادة عن أنسٍ، فلم يأتِ أحدٌ منهم بما أتى به شَريك، وشَريكٌ ليس بالحافظ عنْد أهل الحديث.
          وقال ابن الجوزيِّ: لا يخلو هذا الحديث مِن أمرين: إمَّا أنْ يكون ◙ قد رأى في المنام ما جرى له مثله في اليقظة بعد سنين، أو يكون في الحديث تخليطٌ مِنَ الرُّواة.
          وقد انزعج لهذا الحديث الخطَّابيُّ، وقال: هذا الحديث منامٌ، ثمَّ هو حكايةٌ يَحْكِيْها أنسٌ ويخبر بها مِنْ تِلقاء نفسه لم يَعزُها إلى رسول الله صلعم، لم يروِها عنه، قلت: قد تأوَّل قوله: (قَبْلَ أَنْ يُوْحَى إليهِ) أي: مِن أمر الإسراء وفي أمر الصَّلاة لأنَّ فَرْضَها ليلةَ الإسراء، وهي المهمُّ.
          وقوله: (جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ) على ظاهره، ثمَّ جاؤوا إليه مرَّةً أخرى، بعد البعث فيما يرى قلبه يوضِّحهُ قوله: (فَلَمْ يَرَهَمْ حَتَّى جَاؤُوا إِلَيْهِ لَيْلَةً أُخْرَى)، فلا مُنافاة بين قوله: (قَبْلَ أَنْ يُوْحَى إِلَيْهِ) وبين فرض الصَّلاة، ودعواه الاتِّفاقَ أنَّه كان قبل الهجرة بسنةٍ يردُّه قولُه في موضعٍ آخر عن ابن سعدٍ: إنَّه كان قبلها بثمانية عشر شهرًا، لسبع عشرة خَلَت مِنْ رمضان ليلة السَّبع.
          وقال الواقِديُّ: ليلة سبع عشرة مِنْ ربيع الأوَّل، وقال الحَرْبيُّ: ليلةَ سبعٍ وعشرين مِنْ ربيع الآخر، وقال ابن قُتيبة: بعد سنةٍ ونصف مِنْ رجوعه مِنَ الطَّائف، وقال القاضي عِياضٌ: بعد المبعث بخمسة عشر شهرًا، وقال ابن فارسٍ: فلمَّا أتتْ عليه إحدى وخمسون سنةً وتسعةُ أشهرٍ أُسري به، وعن السُدِّيِّ: كان قبل الهجرة بستَّة أشهرٍ، حكاه عنه ابن سالمٍ في «ناسخه»، وقال ابن الجوزيِّ في «الوفا»: كان قبل الهجرة بثمانية أشهرٍ، وقيل: كان في ليلة سبعٍ وعشرين مِنْ رجب، وعند ابن الأَثير: قبل الهجرة بثلاث سنين، وعند أبي عمر: بعد المبعث بثمانية عشر شهرًا، وقال الزُّهريُّ: بعد البعثة بثمان سنين.
          فصلٌ: لمَّا ذكر الحاكمُ حديثَ شَريكٍ قال: وهِمَ في مواضعَ أربعةٍ: ذكر إدريسَ في السَّماء الثَّانية، والأخبار تواترت أنَّهُ في الرَّابعة، وذكر هارون أنَّه في الرَّابعة، والأخبار تواترت أنَّهُ في الخامسة، وذكر إبراهيم في السَّادسة وموسى في السَّابعة، والأخبار تواترت على العكس، قلت: ويجوز أن يُحمل على تعدُّد الإسراء.
          فصلٌ: جمع بعضُهم فيما حكاه عِياضٌ في حديث شَريك ثلاثة أوهامٍ: شَقَّ الصَّدرِ، وذِكرَ النَّوم، ودنوَّ الرَّبِّ جلَّ جلاله، إذ شقُّ البطن في الأحاديث الصَّحيحة إنَّما كان في صغره، مع أنَّ أنسًا قد بيَّن مِنْ غير طريقٍ أنَّه إنَّما رواه عن غيره، وأنَّه لم يسمعْه مِنْ رسول الله صلعم، فقال مرَّةً: عن مالكٍ، كما سلف.
          وفي مسلمٍ: لعلَّه عن مالكٍ، على الشَّكِّ، وقال مرَّةً: كان أبو ذرٍّ يُحدِّث، نعم قال الحاكم في «إكليله»: المعراج صحَّ سندُه بلا خلافٍ بين أئمَّة الحديث فيه، ومدار الرِّوايات الصَّحيحة فيه على أنسٍ، وقد سمع بعضه عن رسول الله صلعم ولم يسمع تمامه، فسمع بعضَه مِنْ أبي ذرٍّ، وبعضَه مِنْ مالكٍ، وبعضَه مِنْ أبي هريرة.
          وأمَّا شقُّ الصَّدر فقد أخرجه فيما مضى مِنْ حديث قَتادة عن أنسٍ، عن مالك، وأخرجه مسلمٌ أيضًا، وأخرجاه مِنْ حديث محمَّد بن مسلمٍ عن أنسٍ، عن أبي ذرٍّ، وفي «مغازي موسى بن عُقبة» أنَّه ◙ أوَّلُ ما رأى أنَّ الله أراه رؤيا في المنام فشقَّ ذلك عليه، فذكرها لخديجة، فَعَصَمها الله مِنَ التَّكذيب، ثمَّ خرج مِنْ عندها فأخبرها أنَّه رأى أنَّ بطنه شُقَّ ثم طُهِّر وغُسِل، ثم أُعيد كما كان، فقالت: هذا والله خيرٌ فأبشرْ، ثمَّ استعلن له جبريلُ، وذكره ابن إسحاق أيضًا في «المبتدأ»، وفي «الدَّلائل» لأبي نُعيمٍ الحافظ، و«الأحاديث الصَّحيحة» للضِّياء أنَّه ◙ قال: ((شُقَّ صَدْرِي وَأَنا ابنُ عَشْرِ سِنِينَ)) وأشار أبو نُعيمٍ إلى غرابته.
          وأمَّا ذكرُ النَّوم فقد ورد في «الصَّحيح» مِنْ غير حديثه فلا إنكار فيه، بل روى أبو نُعيمٍ مِنْ حديث أَبَان، عن إبراهيم، عن علقمة: ((أَوَّلُ مَا يُؤْتَى بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْمَنَامِ حَتَّى تَهْدَأَ قُلُوبُهُمْ، ثمَّ يأتي الوَحْيُ بَعْدُ))، فيحتمل أن يكون رآه أوَّلًا منامًا ثمَّ يقظةً.
          وروى سعيد بن المسيِّب مرفوعًا: ((مَا مِنْ شَيءٍ يَجْرِي لابنِ آدمَ إلَّا وَيَراهُ في مَنَامهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ))، ذكره القَيْرَوانيُّ في تفسيره المسمَّى بــ«البستان»، وذكر العَزَفيُّ في «مولده»: أنَّ حَليمة رأت شقَّ صدره في المنام على الهيئة الَّتي أخبرها بها في اليقظة فقصَّتها على زوجها.
          ولفظ الدنوِّ جاء في «الصَّحيح» تفسيره بشيءٍ سائغٍ لا إنكار فيه، أنَّ عائشة لمَّا سُئلت عنه قالت: ذاك جبريلُ كان يأتيه في صورة الرِّجال، وأنَّه رآه في هذه المرَّةِ في صورته الَّتي هي صورتُه، فسدَّ أفقَ السَّماء، وكذا ذكره مسلمٌ في «صحيحه» عن ابن مسعودٍ.
          فصلٌ: روى الزُّبير مِنْ حديث يونس عن الزُّهْريِّ، عن عُروة، عن عائشة: أنَّ خديجة تُوفِّيت قبل أن تُفْرَض الصَّلاة، وهذا ردٌّ على ابن حزمٍ في قوله: لا خلاف أنَّها صلَّت معه بعد فرضها.
          فصلٌ: (وَقَالَ هَمَّامٌ: عَنْ قَتادة...) إلى آخره، هذا رواه أبو نُعَيمٍ الحافظُ عن عمرو بن حَمْدانَ، حدَّثنا الحسن بن سفيان، حدَّثنا هُدْبة، حدَّثنا همَّامٌ به: ((أَنَّهُ رَأَى الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ولا يَعُودُونَ فِيهِ))، ولا يُعترض بعدم سماع الحسن مِن أبي هريرة، فقد ثبت في عِدَّة أحاديث سماعُه منه ولله الحمد، وصرَّح به موسى بن هارون وقَتادة وغيرهما.
          فصلٌ: في «صحيح ابن حبَّان»: أنَّ جبريل ◙ حمله ◙ على البُرَاق رديفًا له، ثمَّ رَجَعَا ولم يصلِّ فيه، ولو صلَّى لكانت سُنَّة، وهو مِنْ أظرف ما يُستدلُّ به على الإرداف.
          فصلٌ: أخرج البَيْهَقيُّ حديث الإسراء مِنْ حديث شدَّاد بن أوسٍ، وفيه: ((أنَّهُ صَلَّى تِلْكَ اللَّيلةَ ببيتِ لَحْمٍ))، ومِن حديث عبد الرَّحْمَنِ بن هاشمٍ عن عُتبة عن أنسٍ وحذيفة وأبي عمران الجونيِّ عن أنسٍ.
          وروى أيضًا مِنْ حديث ابن مسعودٍ، وأنَّ سِدرة المنتهى في السَّادسة، وأبي سعيدٍ مِنْ حديث أبي هارون العبديِّ، ومِن حديث أبي جعفرٍ الرَّازيِّ، عن الرَّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، عن أبي هريرة، وفي «طبقات ابن سعدٍ»: ((بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلعم نائمٌ في بيتهِ ظُهْرًا، أَتَاه جِبْريلُ وَمِيكَائيلُ فَقَالا: انطَلِقْ إلى مَا سَألتَ))، فساق / حديث الإسراء.
          وقال بعضهم: فُقِدَ رسولُ اللهِ صلعم تلكَ اللَّيلةَ، فتفرَّقت بنو عبد المطَّلب يطلبونه ويلتمسونه، وخرج العبَّاس حَتَّى بَلَغ ذَا طُوى فَجَعل يَصْرخُ: يا محمَّدُ يا محمَّد، فأجابهُ رسول الله صلعم: ((لبَّيك فقال: يا ابن أخي عنَّيت قومَكَ مُنذُ اللَّيلةَ، فأينَ كُنتَ؟ قالَ: أَتَيتُ بيتَ المقْدِسِ، قالَ: في ليلتكَ؟ قالَ: نعمْ، قالَ: هَلْ أَصَابكَ إلَّا خيرٌ؟ قالَ: مَا أَصَابني إلَّا خَيرٌ)).
          وقالت أمُّ هانئ: ما أُسري به إلَّا مِنْ بيتِنا، نام عندنا تلك اللَّيلة.
          وفي «الشِّفا»: رأى موسى في السَّابعة، بتفضيل كلامه جلَّ وعزَّ، ثمَّ علا فوق ذلك بما لا يعلمه إلَّا الله، فقال موسى: لم أظنَّ أنِّي لم يُرْفَع عليَّ أحدٌ.
          فصلٌ: اختَلف العلماء هل كان الإسراء بروحه أو بجسده؟ على ثلاث مقالات:
          فذهبت طائفةٌ إلى الأوَّل، وأنَّه رؤيا منامٍ مع اتِّفاقهم على أنَّ رؤيا الأنبياء وحيٌ وحقٌّ، وإلى هذا ذهب معاوية، وحُكي عن الحسن، والمشهور عنه خلافُه، وإليه أشار ابن إسحاق، وحجَّتهم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} الآية [الإسراء:60].
          وروى ابن مَرْدَوَيْهِ مِنْ حديث الحسين بن عليٍّ أنَّه ◙ قال: ((رَأَيتُ في المَنَامِ كأنَّ بَني أُمَيَّةَ يَتَعاورونَ مِنْبَري هَذَا، فَأَنَزلَ اللهُ هَذهِ الآيةَ))، وذكره أيضًا مِنْ حديث عليِّ بن زيدٍ، عن سعيد بن المسيِّب مرسلًا، وما حَكَوا عن عائشة: ((ما فَقَدتُ جَسَدَ رَسُولِ اللهِ صلعم))، وقوله: ((بَيْنَا أَنَا نَائمٌ))، وقول أنسٍ: ((وَهُوَ نَائمٌ في المسْجِدِ الحَرَامِ))، وذكر القصَّة، وقال في آخرها: ((فَاسْتَيْقَظتُ وَأَنا بالمسْجِدِ الحَرَامِ)).
          وذهب معظم السَّلف إلى الثَّاني، أنَّهُ إسراء بالجسد وفي اليقظة وهذا هو الحقُّ، وهو قول ابن عبَّاسٍ فيما صحَّحه الحاكم، وعدَّدَ في «الشِّفا» عشرين نفسًا قال بذلك مِنَ الصحابة والتَّابعين وأتباعِهم، وأنِّه دليل قول عائشة وقول الطَّبَريِّ، وجماعةٍ عظيمةٍ، وهو قول أكثر المتأخِّرين مِنَ الفقهاء والمحدِّثين والمفسِّرين والمتكلِّمين.
          وقالت طائفةٌ: كان الإسراء بالجسد يقظةً إلى بيت المقدس، وإلى السَّماء بالروح، واحتجُّوا بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] فلو كان زيادة في الجسد لَذَكَرَهُ ليكون أبلغ للمدح، ثمَّ اختلف هؤلاء: هل صلَّى ببيت المقدس أم لا؟
          ففي حديث أنسٍ وغيره: صلاتُه فيه، وأنكر ذلك حُذيفة، وقال: والله ما زالا عن ظهر البُرَاق حَتَّى رجعا، والصَّحيح والحقُّ أنَّهُ إسراءٌ بالجسد والرُّوح في القصَّةِ كُلِّها، وعليه تدلُّ الآيةُ وصحيحُ الأخبار والاعتبار، ولا يُعدل عن الظَّاهر والحقيقة إلى التَّأويل إلَّا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالةٌ، إذ لو كان منامًا لقال: بروح عبدِه، ولم يقل: {بِعَبْدِهِ}، وقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، ولو كان منامًا لم يكن فيه معجزةٌ ولا آيةٌ، ولَمَا استبعده الكفَّار ولا كذَّبوه، ولا ارتدَّ به ضعفاء مَنْ أسلم وافتُتنوا به، إذ مثل هذا في المنامات لا يُنكر، بل لم يكنْ ذلك منهم إلَّا وقد علموا أنَّ خبره إنَّما كان عن جسمه وحال يقظته، إلى ما ذكر في الحديث مِنْ صلاتِه بالأنبياء ببيت المقدس في رواية أنسٍ، وفي السَّماء على ما روى غيره، وذكرِ مجيءِ جبريلَ له بالبُراق، وشِبْهِ ذلك مِنْ مراجعته مع موسى، ودخولِه الجنَّة، قال ابن عبَّاسٍ: هي رؤيا عينٍ رآها لا رؤيا منامٍ.
          وعن الحسن فيه: ((بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ في الحِجْر جَاءني جِبْريلُ فَهَمَزني بِعَقِبهِ، فَقُمتُ فَجَلستُ فَلَمْ أَرَ شيئًا، فَعُدتُ إلى مَضْجَعِي))، ذكر ذلك ثلاثًا، قال في الثَّالثة: ((فَأَخذَ جِبْريلُ بِعَضُدي فجرَّني إلى بَابِ المسْجِدِ، فإذا بِدَابَّةٍ))، وحديث أمِّ هانئٍ بيَّن فيه أنَّه بجسمه، وكذا حديث الصِّدِّيق والفاروق، ومَنْ قال: إنَّها نومٌ احتجَّ بالآية السَّالفة، فسمَّاها رُؤيا، وآية الإسراء تردُّه لأنَّه لا يُقال في النَّوم: أسرى.
          وقوله: {فِتْنَةً} يؤيِّده، على أنَّه قيل: إنَّها نزلت في قصَّة الحُديبية وما وقع في نفوس النَّاس مِنْ ذلك، وما سلف لا دِلالة فيه لأنَّهُ يحتمل أن يكون أوَّلُ وصول المَلَكِ إليه كان وهو نائمٌ، ولعلَّ ((استيقظت)) معناه أصبحت أو مِنْ نومٍ آخر بعد وصوله بيته، يوضِّحهُ أنَّ مسراه لم يكن طول ليلته، وإنَّما كان في بعضه، أو استيقظت وأنا في المسجد لما كان غمره مِنْ عجائب ما طالع مِنَ الملكوت فلم يستفق ويرجع إلى حالة البشريَّة إلَّا وهو بالمسجد الحرام، أو يكون نومه واستيقاظه حقيقةً على مقتضى لفظه، ولكنَّه أُسْرِيَ بجسدِه وقلبُه حاضرٌ، ورؤيا الأنبياء حقٌّ، وقد مال بعضُ أصحاب الإشارات إلى نحو هذا.
          قال: تغْمِيضُ عينيه لئلَّا يشغلَه شيءٌ مِنَ المحسوسات عن الله، ولا يصحُّ هذا أنْ يكون في وقت صلاته بالأنبياء، ولعلَّه كانت له في هذه الإسراء حالاتٌ، أو يعبِّر بالنَّوم هنا عن هيئة النَّائم مِنَ الاضطجاع، يوضِّحه قوله في رواية عبدِ بن حُميدٍ عن همَّامٍ: ((بَيْنَا أَنَا نَائمٌ)) وربَّما قال: ((مُضْطَجِعٌ))، وفي رواية هُدبة: ((مُضْطَجِعٌ))، وفي الرِّواية الأخرى: ((بَيْنَ النَّائمِ وَاليَقْظَانِ))، فيكون سمَّى هيئته بالنَّوم لمَّا كانت هيئةَ النَّائم غالبًا.
          وقول عائشة: ما فقدت جسده فلم تحدِّث عن مشاهدةٍ لأنَّها لم تكن حينئذٍ زوجَه، ولا في سنِّ مَنْ يَضبط ولعلَّها لم تكن وُلدت، فإذا لم تشاهد ذلك دلَّ أنَّها حدَّثت بذلك عن غيرها فلم يرجَّح خبرُها على خبر غيرها، وغيرها يقول خلافه ممَّا وقع نصًّا في حديث أمِّ هانئٍ وغيره، وأيضًا فليس حديث عائشة بالثَّابت، كذا قال عِياضٌ، لكنَّه في مسلمٍ والأحاديثِ الأُخر أثبتُ إسنادًا، يعني: حديث أمِّ هانئٍ وما ذكرت فيه خديجة.
          وأيضًا فقد رُوي في حديث عائشة: ما فقدت ولم يدخل بها ◙ إلَّا بالمدينة، وكلُّ هذا يوهنه، بل الَّذِي يدلُّ عليه صريحُ الأخبار قولُها: إنَّه بجسده لإنكارها أن تكون رؤياه لربِّه رؤيا عين، فلو كان عندها منامًا لم تنكره.
          وأمَّا قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، فجعل ما رآه للقلب، وهو دالٌ على أنَّهُ رؤيا نومٍ ووحيٍ، لا مشاهدةُ عينٍ وحسٍّ، فيقابله قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} [النجم:17]، فقد أضاف الأمر إلى البصر، وقد قال أهل التَّفسير في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} [النجم:11] أي: لم يوهم القلبُ العينَ غير الحقيقة، بل صدَّق رؤيتها، وقيل: ما أنكر قلبُه ما رأته عينُه.
          فائدةٌ: ذَكرَ ابنُ أبي خالدٍ في كتاب: «الاحتفال في أسماء الخيل وصفاتها» أنَّ البُراق ليس بذكرٍ ولا أنثى، ووجهُه كوجه الإنسان، وجسدُه كجسد الفرس، وقوائمُه كقوائم الثَّور، وذنَبُه كذنب الغَزال، وروى التَّيميُّ عن أنسٍ مرفوعًا: ((أَتَاني جِبْريلُ بِالبُرَاقِ، فَقَالَ الصِّدِّيقُ: قَدْ رَأَيْتُها يَا رَسُولِ اللهِ، قَالَ: هِيَ بَدَنَة، فَقَال: صَدَقْتَ قَد رأيتَها يَا أَبَا بَكْرٍ)).
          فصلٌ في ألفاظ الحديث: الطَّسْت مؤنَّثة، وجمعها: طُسُوس، ولذلك قال: مَلْأَى على وزن سَكْرى، / قاله ابن التِّين، لكن بخطِّ الدِّمْياطيِّ: مُلِئَ بضمِّ أوَّلِه، وقال: في باب: ذكر إبليس: ((مُمْتَلِئ)) قال ابن التِّين هناك: وصوابه ممتلئةٌ لأنَّ الطَّسْت مؤنَّثةٌ، إلَّا أنَّه يجوز على ما تقرَّر في المؤنَّث الَّذِي لا فَرْج له أنَّهُ يجوز تذكيره.
          والحِكْمَة: كلُّ كلمةٍ عدلٍ لا خَلَل فيها، ومنه: ((إنِّ مِنَ الشِّعرِ لَحِكَمًا))، أي: منه ما يدعو إلى الخير، وقوله: (فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَىْ مَرَاقِّ البَطْنِ) أي: أسفله المَغَابن وما يليها، وأصلها: مراقق، فأُدغمت القاف في القاف، وهي مَفَاعِلُ، سُمِّيت بذلك لأنَّها موضعُ رِقَّة الجلد.
          وقوله: (أُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ) ولم يقل بيضاء لأنَّه أعاده على المعنى، أي: بمركوبٍ أو براقٍ.
          وبكاء موسى ╕ لا يُتأوَّل على معنى المُحَاسَدَة له والمنافسة فيما أُكرم به، فذلك لا يليق بصفات الأنبياء وأخلاق الأجِلَّة مِنَ الأولياء، وإنَّما بكى لنفسه ولأمَّته حين بُخس الحظَّ منهم، إذ قصَّر عددُهم عن مبلغ عدد أمَّة محمَّدٍ شفقًا على أمَّته، وتمنِّي الخير لهم، وقد يليق هذا بصفات الأولياء، والبكاءُ على ضروبٍ: فقد يكون مرَّةً حزنًا أو ألمًا، ومرَّةً مِنْ إسكانٍ أو عجبٍ، ومرَّةً مِنْ سرورٍ وطَربٍ.
          وفيه كما قال الدَّاوُديُّ: تمنِّي الخيرِ والتَّنافسُ فيه، وتمنِّي المرءِ مثلَ ما لغيره له، وإنَّما قال: ((يدخل الجنَّة مِنْ أمَّته أكثر)) لأنَّ لكلِّ نبيٍّ أجرَ مَنِ اتَّبعه واهتدى به.
          وأمَّا قوله: (هذا الغُلَامُ) فمعناه: على تعظيم المنَّة لله عليه فيما أناله مِنَ النِّعمة، وأحفَّه له مِنَ الكرامة مِنْ غير طول عمرٍ بلغَه في عبادته، وأفناه مجتهدًا في طاعته، وقد تُسَمِّي العربُ الرَّجلَ المستجمعَ السِّنِّ غلامًا ما دامت فيه بقيَّةٌ مِنْ قوَّةٍ، وذلك مشهورٌ في لغتهم، قال الدَّاوُديُّ: يُقال لِمَنْ لم يبلغ خمسين: غلامٌ وكَهْلٌ وفتًى وشابٌّ.
          قال ابن فارسٍ: الغلام الطَّارُّ الشَّاربِ، وقال ابن التِّين في باب المعراج: المعروف أنَّ مَنْ قارَب الخمسين يُسمَّى كهلًا لا غلامًا.
          فصلٌ: وذكْرُه إدريسَ في السَّماء الرَّابعة قيل: هو معنى قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] قاله أبو سعيدٍ الخُدْريُّ، وقيل: رفعناه في المنزلة والرُّتبة، وقيل: إنَّهُ سأل مَلَكَ الموت أن يريَه النَّار فأراه إيَّاها، ثمَّ الجنَّةَ، فأدخله إيَّاها، ثمَّ قال له: اُخرج، فقال: وكيف أخرج وقد قال الله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48]، وقيل: سأل إدريسُ ربَّه أن يُذيقَه الموت ثم يردَّ إليه روحَه ففعل ذلك، ثمَّ سأله أن يدخله الجنَّةَ ففعل، فلمَّا رآها قال له رِضوان: اخْرج، قال: إنَّ الله قضى لِمَنْ دخلها ألَّا يخرج، وقد ذُقْتُ الموت المحتوم على العباد فأمره الله بتركه.
          ورُوي عن كعبٍ أنَّه قال لابن عبَّاسٍ: لِمَ نزلت هذه الآية؟ فقال كعبٌ: كان إدريسُ صَديق مَلَكٍ فقال له: كلِّم لي ملَكَ الموت في تأخير قبض روحي، فحمله الملَك تحت طرف جناحه، فلمَّا بلغ به السَّماء الرَّابعة لقي مَلَكَ الموت، فكلَّمهُ، فقال: أنَّى هو؟ فقال: ها هو ذا، فقال: مِنَ العجب أنِّي أُمرت أن أقبضَ روحه هنا، فقبضها.
          وفيه دليلٌ على النَّسَّابة في قولهم: إنَّ إدريس جدُّ نوحٍ، إذ لو كان كذلك لقال: مرحبًا بالابن الصَّالح كما قال إبراهيمُ وآدم، وإنَّما قال: الأخ الصَّالح، قال ابن عبَّاسٍ: وإدريس هو اليَسَعُ، فعلى هذا هو مرسَلٌ، ذكره ابن التِّين.
          وقوله في إبراهيم: (إنَّهُ فِي السَّابعةِ) ذُكِر في أوَّل البُخاريِّ أنَّهُ في السَّادسة، ويُجمع بينهما بتعدُّد الإسراء، فإن كان واحدًا فلعلَّهُ وجَدَهُ في السَّادسة، ثمَّ ارتقى إبراهيمُ إلى السَّابعة.
          واخْتُلِف في موسى: هل هو في السَّادسة أو السَّابعة، واحتجَّ بأنَّهُ في السَّابعة بأنَّه أوَّل مَنْ مرَّ به فلذلك كلَّمهُ في نفس الصَّلاة، قاله ابن التِّين، قال: وما ذكره مِنْ رؤياه إيَّاه فإنَّما رأى الأرواح إلَّا عيسى فإنَّه لم يمت، قال ابن عقيلٍ الحنبليُّ: أشكل أرواحهم على هيئة صور أجسامهم، قلت: الأنبياء أحياءٌ وهي مستلزمة الرُّوح.
          وقوله: (فَإِذَا نَبْـِقُهَا) يُقال بكسر الباء وسكونها، وهو: ثمر السِّدْر.
          وقوله: (كَقِلَالِ هَجَرَ) قيل: في القُلَّة مئتا رِطلٍ وخمسون رِطْلًا، بالرِّطل البغداديِّ، كذا قاله ابن التِّين، وهو الأصحُّ في مذهبنا أنَّهما خمس مئة رِطل، قالَ الخطَّابيُّ: القِلَال: الجِرَار، وهي معروفةٌ عند المخاطَبين معلومة القَدْر، وقد حُدَّد بها الماء، والتَّحديد لا يقع بمجهول، وعبارة ابن فارسٍ: القُلَّة: ما أقلَّه الإنسان مِنْ جرَّةٍ أو حبٍّ، قال: وليس في ذلك عند أهل اللُّغة حدٌّ محدودٌ إلَّا أن يأتيَ في الحديث تفسيرٌ فيجبُ أنْ نسلِّم، وعبارة الهَرَويِّ: القُلَّة: منها تأخذُ مزادةً مِنَ الماء، سُمِّيت بذلك لأنَّها تُقَلُّ أي: تُرْفَع.
          و(هَجَرَ): بفتح الهاء والجيم بلدٌ، لا تنصرف للتَّعريف والتَّأنيث.
          فائدةٌ: قيل: إنَّ علم الخلائق انتهى إلى سِدْرة المنتهى لم يجاوز ما وراءها.
          وقوله: (فَنُودِيتُ: أَنْ قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي) قال ابن التِّين: احتجَّ به مَنْ قال: إنَّ الله ╡ كلَّمَ محمَّدًا ليلة الإسراء، وقد اختُلف هل كان الإسراءُ يقظةً أو منامًا؟ قلت: قد رُوي أنَّ مَلَكًا نادى بذلك ولا خلاف في تكليمه، وإنَّما الخلف هل رآه؟ والمشهور: نعم، وفي رواية البُخاريِّ: ((فنُوديَ: إِنِّي قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي)).
          فصلٌ: قوله: (الأَخِ الصَّالِح) إنَّما عبَّر بالصَّالح لشموله سائرَ الخِلَالِ الحَسنة.
          وفيه استحبابُ لقاء أهل الفضل بالبِشر والدُّعاء والتَّرحيب، وإن كانوا أفضلَ مِنَ الدَّاعي.
          وفيه جوازُ مدح الإنسان في نفسه إذا أُمِنَ عليه أسبابُ الفتنة.
          فصلٌ: ينعطف على ما مضى أوَّلَ الباب ذكرُ الزَّجَّاج في «المعاني» أنَّ الرُّسل مِنَ الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملَك الموت، وفي «ربيع الأبرار» للزَّمَخْشريِّ عن سعيد بن المسيِّب قال: الملائكة ليسوا بذكورٍ ولا إناثٍ، ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون، وقال عبد الرَّحْمَنِ بن سابِطٍ: يُدبِّر أمرَ الدُّنيا أربعةٌ: جبريلُ للرِّيح والجنود، وميكائيلُ للنَّبات والقَطْر، وملَك الموت لقبض الأنفُس، وإسرافيلُ ينزل إليهم بما يؤمرون.
          وروى الكَلَاباذيُّ في «أخباره» مِنْ حديث الفضل بن عيسى، عن عمِّه يزيدَ بن أَبان، عن أنسٍ مرفوعًا: ((يَقُولُ اللهُ ╡ لملَك الموتِ بَعْدَ فَناءِ الخَلْق: مَنْ بَقِي؟ فَيقُولَ: جِبْريلُ وَمِيكَائيلُ، فَيقُولُ: خُذْ نَفْسَ مِيكَائيلَ فَيَقعُ في صُورتهِ الَّتي خَلقَهُ اللهُ عَليها مِثْلَ الطَّودِ العَظِيم، ثمَّ يَقُولُ: مَنْ بَقِي؟ فيقولُ: جِبْريلُ وَمَلكُ المَوْتِ، فيقول: يا مَلَكَ الموتِ مُت فَيمُوتُ، وَيبْقَى جِبْريلُ، فَيَأخذُ اللهُ رُوحَهُ، فَيَقعُ عَلَى مِيكَائيلَ، وإنَّ فَضْل خلقهِ على خلق مِيْكَائيلَ كَفَضْلِ الطَّود العَظِيم / عَلَى الظَّرِبِ مِنَ الظِّرَابِ)).
          قال محمود بن عمر: ويُروى أنَّ صنفًا مِنَ الملائكة لهم ستَّة أجنحةٍ: فجناحانِ يكفون بهما أجسادهما، وجناحان يطيرون بهما في الأمر مِنْ أمور الله تعالى، وجناحان مُرْخَيان على وجوههم حياءً مِنَ الله، وقال عليٌّ يصف الملائكة: منهم الأُمَناء على وحيه، ومنهم الحَفَظة لعباده، ومنهم السَّدَنة لأبواب جنَّاته، ومنهم الثَّابتة في الأرض السُّفلى أقدامهم في الأرض، والمارقة مِنَ السَّماء العليا أعناقُهم، والخارجة مِنَ الأقطار أركانُهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، وعن أبي العالية: الكروبيُّون سادة الملائكة، منهم: جبريل وإسرافيل، ويُقال لجبريل: طاوسُ الملائكةِ.
          قال الكَلاباذيُّ: سمعت بعض شيوخ المتكلِّمين يقول: إنَّ جبريل يخلقه الله في وقت نزوله على محمَّدٍ إنسانًا وبشرًا، وهذا لا يستقيم لأنَّهُ لو كان كما قاله لكان قول المشركين: إنَّما يُعلِّمه بشرٌ صدقًا، والله تعالى يقول: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] و{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:193] فجبريلُ جبريلُ، وإنْ كانت الصُّورة صورةَ إنسانٍ، إذن فالصورة ليس الملَك، وإن كان الملَك هي بدل الصُّورة.
          رُوِّينا عن عليِّ مرفوعًا: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ سُوقًا مَا فِيْهَا شِرَاءٌ ولَا بَيْعٌ إلَّا صُوَرَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ، مَنِ اشْتَهى صُوْرَةً دَخَلَ فِيْهَا)) فَأَخبرَ أنَّ الصُّورةَ غَيرُ الَّتي يَدْخلُ فِيْهَا.
          فصل: اختُلِف في البيت المعمور، وفي مكانه، فقيل: البيت الَّذِي بناه آدم أوَّلَ ما نزل إلى الأرض فرُفع إلى السَّماء في أيَّام الطُّوفان، يدخله كلَّ يومٍ سبعون ألف ملَكٍ، والملائكة تُسمِّيه: الضُّراح _بالضَّاد المعجمة_ لأنَّه ضُرحَ عن الأرض إلى السَّماء، أي: أُبعد، ومنه: نِيَّةٌ ضَرَحٌ وطَرَحٌ: بَعِيدَةٌ، وقال أبو الطُّفيل: سمعتُ عليًّا _وسُئل عن البيت المعمور_ قال: ذاك الضُّراح بيتٌ بحيال الكعبة، يدخله كلَّ يومٍ سبعون ألف مَلَك، لا يعودون إليه حَتَّى تقوم القيامة.
          قال محمود بن عمر: ويُقال له الضَّريح أيضًا، ومَنْ قال الضِّراح فهو اللَّحن الصُّراح، وعن ابن عبَّاسٍ والحسن: إنَّه البيت الَّذِي بمكَّة معمورٌ بمَنْ يطوف به.
          وعن محمَّد بن عبَّاد بن جعفر أنَّهُ كان يستقبل القبلة، ويقول: واحبَّذا بيتُ ربِّي ما أحسنَه وأجملَه! هذا والله البيتُ المعمور، وقيل: البيتُ المعمور في السَّماء الدُّنيا أو الرَّابعة أو السَّادسة أو السَّابعة، أقوال، وعن جعفر بن محمَّدٍ عن آبائه: هو تحت العرش، وتقدَّم طرفٌ منه في أوَّل الصَّلاة [خ¦349].