التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما جاء في قوله: {وهو الذي أرسل الرياح نشرًا بين يدى رحمته}

          ░5▒ بَابُ: قَوْلِ اللهِ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف:57]
          {قَاصِفًا} [الإسراء:69] تَقْصِفُ كُلَّ شَيْءٍ، {لَوَاقِحَ} [الحجر:22] مَلَاقِحَ مُلْقِحَةً {إِعْصَارٌ} [البقرة:266] رِيحٌ عَاصِفٌ تَهُبُّ مِنَ الأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ كَعَمُودٍ فِيهِ نَارٌ، {صِرُّ} [آل عمران:117] بَرْدٌ، {نُشُرًا} مُتَفَرِّقَةً.
          الشَّرح: معنى: (تَقْصِفُ كُلَّ شَيءٍ) تَكْسِرُه، قال عبد الله بن عمر: الرِّياح ثمانية: أربعٌ عَذابٌ وأربعٌ رحمةٌ، فالرَّحمة: النَّاشرات والذَّاريات والمرسَلات والمبشِّرات، وأمَّا العذاب: فالعاصف والقاصف، وهما في البحر، والصَّرصر والعَقِيم، وهما في البرِّ.
          وقوله: ({لَوَاقِحٌ} مَلاقِحٌ)، أي: جمع مُلْقِحةٍ ومُلْقِحٍ، ثمَّ حُذفت منه الزَّوائد، هذا قول أبي عُبيدة وغيره، وأنكره بعضهم، وقال: هو بعيدٌ جدًّا لأنَّ حذف الزَّوائد إنَّما يجوز مِنْ مثل هذا في الشِّعر، ولكنَّهُ جمع لاقِحَةٍ ولاقِحٍ بلا خلافٍ، وهو على أحد معنيين، لاقِحٌ في النسب أي: ذات اللِّقَاح.
          وقال ابن السِّكِّيت: اللَّواقح: الحوامل، وهذا المعنى الثَّاني، والعرب تقول للجنوب: لاقِحٌ وحاملٌ، وللشَّمال: حافلٌ وعقيمٌ، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا} [الأعراف:57] فأقلَّت وحملتْ واحدٌ، وقال ابن مسعودٍ: لَوَاقحٌ: تحمل الرِّيحُ الماءَ فَتُلَقِّح السَّحاب، وتمرُّ به فتَدُرُّ كما تَدُرُّ اللَّقْحَة ثمَّ تمطر، قال ابن عبَّاسٍ: تلقح الرِّياحُ الشَّجرَ والسَّحاب وتمرُّ به، وقال الأَزهريُّ: / جعل الرِّيحَ لاقحًا لأنَّها تقلُّ السَّحاب وتصرفه، ثم تمرُّ به فتستدرُّه.
          وقوله: ({إِعْصَارٌ} رِيحٌ عَاصِفٌ...) إلى آخره، قال ابن عبَّاسٍ: هي الرِّيح الشَّديدة، وقال غيره: ريحٌ عاصفٌ: فيها سَمومٌ، قال بعضهم: هي الَّتي يسمِّيها النَّاسُ الزَّوبعةَ.
          وقوله: ({نُشُرًا} مُتَفَرِّقَةً)، قال غيره: معنى {نُشُرًا} أحيانَا بالسَّحاب الَّتي فيها المطر الَّذِي به الحياة، و(نُشُرًا): جمع نشورٍ، ورُوي عن عاصمٍ: {بُشْرًا} كأنَّه جمع بشرٍ.
          قال محمَّدٌ اليماني: {بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف:57] أي: المطر.
          وقوله: ({أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} [الفرقان:48]) أكثر القرَّاء يقرؤون ما كان للعذاب بالإفراد، وما كان للرَّحمة بالجمع، وفي الحديث أنَّه ◙ كان إذا هبَّت الرِّيحُ يقول: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا)) وقيل: إنَّما كان هكذا لأنَّ ما أتى بالرَّحمة ثلاثةُ أرياحٍ: الصَّبا، والشَّمال، والجنوب، والرَّابعة الدَّبُور ولا يكاد يأتين بمطرٍ، فقيل لِمَا يأتين بالرَّحمة: رياحٌ لهذا.
          3205- ثمَّ ذكر فيه حديث ابن عبَّاسٍ، عَنِ رسول الله صلعم قَالَ: (نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ) وقد سلف في الاستسقاء [خ¦1035].
          3206- وحديث عائشة قالت: كان النَّبيُّ صلعم إِذَا رَأَى مَخِيلَةً فِي السَّمَاء أَقبَلَ وَأدبَر، ودَخَلَ وَخَرَجَ، وتَغَيَّر وجهُه، فَإذَا أمْطَرَتِ السَّمَاءُ سُرِّيَ عنه فعرَّفَتْهُ عَائِشَةُ ذَلِكَ فَقَالَ: (وَمَا أَدْرِي لَعَلَّهُ كَمَا قَالَ قَوْمٌ:{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24]).
          وذكره البُخاريُّ في موضعٍ آخر عنها بلفظ: ((مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ)) [خ¦4829]، وللنَّسائيِّ: ((إِذَا رَأَى مَخِيلَةً)) يعني الغيم.
          (المَخِيلَة): السَّحابة الَّتي يُخالُ بها المطر، وهي الخال أيضًا، يُقال: رأيتُ خالًا في السَّماء، ومنه: تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ: تهيَّأت للمطر، وقال الدَّاوُديُّ: (المَخِيلة) سحابٌ وريحٌ متغيِّرةٌ على غير ما تُعْهَد، وفعل ذلك خوفًا على أُمَّته.
          وقوله: (فَإِذَا أَمْطَرَتْ) قال الهَرَويُّ: جاء في التَّفسير أُمطرنا في الرَّحمة، ومُطرنا في العذاب، وأمَّا في كلام العرب فسواءٌ، وعند أبي ذرٍّ بإسقاط الألف، ونقل عِياضٌ عن المفسِّرين أنَّهم وجدوه في القرآن في مواضع بالألف، والصَّحيح أنَّهما بمعنًى، أَلَا تراهم قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] وإنما ظنُّوه مطر رحمةٍ فقيل لهم: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الأحقاف:24].
          ومعنى: (سُرِّيَ عَنْهُ) كُشف ما خامره مِنَ الوَجَل، يُقال: سَرَوْتُ الجُلَّ عن الفرس: إذا نزعتَه عنه.
          وقوله: (مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيْهِ عَذَابٌ) قال ابن العربيِّ: كيف يلتئم هذا مع قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33].
          والجواب أنَّ الآية قبل الحديث لأنَّها كرامةٌ لرسول الله صلعم، ودرجةٌ رفيعةٌ لا تحطُّ بعد أن رفعت، فإنَّ اللهَ لم يعذِّب أسلافهم لكونه في أصلابهم، ولم يعذِّبهم لوجوده فيهم، ولم يعذِّبهم وَهُم يستغفرون بعد ذهابه.
          واستنبطت الصُّوفيَّة مِنْ ذلك أنَّ الإيمان الَّذِي في القلوب أيضًا يمنع مِنْ تعذيب أبدانهم كما كان وجوده فيهم مانعًا منه.
          فصلٌ: قوله: (نُصِرْتُ بِالصَّبَا) هي القَبُول الَّتي تهبُّ مِنْ مطلع الشَّمس، سُمِّيت القَبُول لأنَّها تقابل باب البيت، و(الدَّبُورِ): الغربيَّة التي تُقابل الصَّبَا، سُمِّيت بذلك لأنَّها تأتي مِنْ دُبر الكعبة، وقال الدَّاوُديُّ: الصَّبَا هي الجنوب، وهي التي تأتي عن يمين مستقبِل الشَّمس، قال: وقوله: (نُصِرْتُ بِالصَّبَا) إذا قابل العدوَّ وكانت الرِّيحُ مِنْ وراء ظهره، وسُمِّيت قَبولًا لأنَّها تأتي مِنْ جهة القيام الأوَّل، قال ابن فارسٍ: لأنَّها تقابل الدَّبُور.