التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب

          ░12▒ بابٌ
          2439- ذكَر فيه حديث أبي بَكْرٍ في الهجرة: (انْطَلَقْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ، فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَسَمَّاهُ، فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟...) الحديثَ بطوله.
          وقد أسلفناه في باب: لا يحتلب أحدٌ ماشية أحدٍ إلَّا بإذنه [خ¦2435]، وذكر الجواب عن شربِه وشربِ الصِّدِّيق مِنَ اللَّبن فراجعه.
          قال ابنُ بَطَّالٍ: سألت بعض شيوخي عن وجه استجازة الصِّدِّيق لشرب اللَّبن مِنْ ذلك الرَّاعي، فقال لي: يحتمل أنْ يكون الشَّارع قد كان أذِن له في الحرب، وكانت أموال المشركين له حلالًا، فعرضتُه على المهَلَّبِ، فقال لي: ليس هذا بشيءٍ؛ لأنَّ الحربَ والجهادَ إنَّما فُرض بالمدينة، وكذلك المغانم إنَّما نزل تحليلُها يوم بَدْرٍ بنصِّ القرآن، قال: وإنَّما شرباه بالمعنى المتعارف عندهم في ذلك الزَّمن مِنَ المكارَمات، وبما استفهم به الصِّدِّيق الرَّاعيَ مِنْ أنَّه حالبٌ أو غير حالبٍ، ولو كان بمعنى الغنيمة ما استفهمَه، ولحلَب على مَا أراد الرَّاعي أو كره، ولساق الغنمَ غنيمةً، وقَتل الرَّاعيَ إنْ شاء أو أخذه أسيرًا.
          يُبيِّن أنَّ ذلك كان عَلى وجه العادة عندهم مَا رواه الثَّوريُّ عن أبي عُبَيدةَ قال: مرَّ رجلٌ مِنْ أهل الشَّام بامرأةٍ مِنْ كَلْبٍ، فقال لها: هَل مِنْ لبنٍ يُباع؟ فقالت: إنَّك لَلئيمٌ، أو حديثُ عهدٍ بقومٍ لئامٍ، هل يبيع الرِّسْلَ كريمٌ، أو يمنعُه إلَّا لئيمٌ؟ إنَّا لندعُ الكُوم لأضيافنا تَكُوسُ، إذا عكف الزَّمن الضَّروسُ، ونُغْلِي اللَّحم غريضًا ونُهَيِّؤه نضيجًا. قال أبو عَلِيٍّ: الرِّسل: اللَّبن، وتَكُوس: تمشي على ثلاثٍ، ونُغلِي مِنَ الغلاء.
          قال المهَلَّبُ: وقد قال أخي أبو عَبْدِ الله: إنَّه لا معارَضة بينهما؛ لأنَّ هذا قوله _◙_ لِما علم أنَّه سيكون مِنَ التَّشاحِّ وقلَّة المواساة، والحديثُ معناه: لا يهجمَنَّ أحدُكم على ماشية غيره، فيحتلبَها بغير إذنه أو غير إذن راعيها الَّذي له حكْم العادات فيما استُرعي فيه مِنَ المعروف، وكانَ بين الحديثين فرقٌ يمنع مِنَ التَّعارض.
          وفي حديث أبي بَكْرٍ مِنَ الأدب والتَّنظُّف ما صَنعه بنفض يد الرَّاعي وبنفض الضِّرع، وخدمته لرسول الله صلعم، وإلطافه به ما يجب أنْ يُتمثَّل في كلِّ عالمٍ وإمامٍ، وسيأتي هذا الحديث أيضًا في باب: اللَّبن، مِنْ كتاب: الأشربة [خ¦5607].
          وقوله: (هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ) هو بفتح اللَّام والباء، قال القاضي: ورُوي بضمِّ اللَّام وتشديد الباء، والكُثْبَة _بالضَّمِّ_ قال ابنُ فارِسٍ: هي القطعة مِنَ اللَّبن ومِنَ التَّمر، سُمِّيت بذلك لاجتماعها، وكذا قال الهَرَويُّ: إنَّها القليل مِنَ اللَّبن ومِنْ غيره، وكلُّ ما جمعت مِنْ طعامٍ أو غيره بعد أنْ يكون قليلًا فهو كُثْبةٌ، وقد كَثَبْتُه أَكْثُبُه: إذا جمعته.
          وقوله: / (فَمِها خِرقَةٌ)، كَذا هو (فَمِهَا) بالميم وَهي لغةٌ غير مشهورةٍ يشهد لها قوله:
يُصْبِحُ ظَمْآنَ وفي البَحْرِ فَمُهْ
          وصوابه بالمثنَّاة تحتُ بدل الميم وهو الأشهر.