التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة؟

          ░7▒ (بَابُ: كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ
          وَقَالَ طَاوُسٌ: عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_: لاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا. وَقَالَ خَالِدٌ: عَنْ عِكْرِمَةَ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ _صلعم_: لاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ).
          2433- (وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا زكَرِيَّاءُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ) به.
          ثمَّ ساق حديث أبي هُرَيْرَةَ في ذلك مطوَّلًا.
          والتَّعليق الأوَّل سبق مسندًا في الحجِّ [خ¦1587]، وكذا الثَّاني: عن ابنِ المثَنَّى حدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ حدَّثَنَا خالِدٌ به [خ¦1833]، والثَّالث أسنده النَّسائيُّ.
          قال أبو مَسْعُودٍ: وقال لي ابن مَنْدَهْ: رواه _يعني البُخاريَّ_ في موضعٍ آخر مِنَ «الصَّحيح» عن رجلٍ آخر عن أبي عاصِمٍ، عن زكريَّاءَ: قال أبو مَسْعُودٍ: ولم أره في «كتاب البُخاريِّ» مِنْ حديث أبي عاصِمٍ أصلًا، واختُلفَ في أَحْمَدَ بنِ سَعيدٍ هذا، فذكر ابنُ طاهِرٍ أنَّه أبو عَبْدِ الله أَحْمَدُ بنُ سَعيدٍ الرِّباطيُّ، ورواه أبو نُعَيْمٍ مِنْ جهة خَلَفِ بنِ سالِمٍ، عن رَوْحٍ، حدَّثَنَا زَكَريَّا، وقال آخره: ذكره البُخاريُّ، عن أَحْمَدَ بنِ سَعيدٍ وهو الدَّارِميُّ _فيما أرى_ عن رَوْحٍ.
          واختلف العلماء في لُقَطة مكَّة، فقالت طائفةٌ: حُكْم لُقَطتها حُكْم لُقَطة سائر البلدان، قال ابنُ المنْذِرِ: رُوِّيناه عن عُمَرَ وابنِ عَبَّاسٍ وعائِشةَ وسَعيدِ بنِ المسَيِّبِ، وبه قال مالِكٌ وأبو حَنيفةَ وأَحْمَدُ، وقالت طائفةٌ: إنَّ لُقَطتها لا تحلُّ ألبتَّة، وليس لواجدها إلَّا إنشادُها، هذا قول الشَّافعيِّ وابنِ مَهْديٍّ وأبي عُبيدٍ، قال ابنُ مَهديٍّ: معنى قوله: ((إِلَّا لِمُنْشِدٍ لاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهَا)) كأنَّه يريد ألبتَّة، فقيل له: إلَّا لمنشِد؟ فقال: (إِلَّا لِمُنْشِدٍ) وهَو يريد المعنى الأوَّل كما يقول الرَّجل: والله لا فعلت كذا وكذا، ثمَّ يقول: إنْ شاء الله وهو لا يريد الرُّجوع عن يمينه، فمعناه أنَّه ليس يحلُّ مِنْها إلَّا إنشادُها، وأمَّا الانتفاع بها فلا يجوز، وفيها قول ثالثٌ قاله جَريْرُ بنُ عَبْدِ الحَميدِ.
          قوله: (إِلَّا لِمُنْشِدٍ) يعني إلَّا مَنْ سمع ناشدًا يقول: مَنْ أصاب كذا؛ فحينئذٍ يجوز للملتقِط أنْ يرفعها إذا رآها لكي يردَّها على صاحبها، ومالَ إسْحاقُ بنُ راهَوَيْهِ إلى هذا القول، وقاله النَضْرُ بنُ شُمَيْلٍ، قال الطَّحاويُّ: وجاء في حديث يَزيْدَ بنِ أبي زِيادٍ، عن مُجاهِدٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ مرفوعًا ووصف مكَّة قال: ((ولا تُرفَعُ لُقَطَتُها إلَّا لمُنشِدِها))، ومِنْ حديث أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: ((ولا يرفع لُقطتها إلَّا منشِدٌ)).
          وفيها قولٌ رابعٌ يعني: لا تحلُّ إلَّا لربِّها الَّذي يطلبها، قال أبو عُبيدٍ: وهو جيِّدٌ في المعنى، ولكن لا يجوز في العربيَّة أنْ يُقال للطَّالب: منشِدٌ، إنَّما المنشِد المعرِّف والطَّالب هو النَّاشد، يدلُّ على ذلك أنَّه _◙_ سمع رجلًا ينشد ضالَّةً في المسجد فقال: ((أيُّها النَّاشدُ غيرك الواجد))، قال أبو عُبيدٍ: وليس للحديث وجهٌ إلَّا ما قاله ابنُ مَهديٍّ. قال ابنُ بَطَّالٍ: ولو كان حُكْمُ لُقَطة مكَّة حُكْمَ غيرها مَا كان لقوله: (لاَ تَحِلُّ لُقَطَتُهَا، إِلَّا لِمُنْشِدٍ) معنًى تختصُّ به مكَّة دون غيرها كما تختصُّ سائرَ ما ذكر في الحديث؛ لأنَّ لُقَطة غيرها كذلك يحلُّ لمنشِدها بعد الحول الانتفاعُ بها، فدلَّ مَساق هذا الحديث كلِّه على تخصيص مكَّة، ومخالفة لُقَطتها لغيرها مِنَ البلدان كما خالفتها في كلِّ ما ذُكر في الحديث، مِنْ أنَّها حرامٌ لا تحلُّ لأحدٍ ساعةً مِنْ نهارٍ بعد رَسُول الله صلعم، إلى غير ذلك ممَّا خُصَّت به، مِنْ أنَّه لم يستبح دماءهم ولا أموالهم ولا جرى فيهم الرِّقُّ كغيرهم.
          ومِنَ الحجَّة أيضًا لذلك: أنَّ الملتقِط إنَّما يتملَّك اللُّقطة في غير مكَّة بعد الحول؛ حفظًا لها على ربِّها وحِرزًا لها؛ لأنَّه لا يقدر على إيصالها إليه، ويَخشى تلفَها فيتملَّكها وتتعلَّق قيمتُها بذمَّته، ولُقَطة مكَّة يمكن إيصالها إلى ربِّها؛ لأنَّه إنْ كان مِنْ أهل مكَّة فإنَّ معرفته تقرب، وإنْ كان غريبًا لا يقيم بها فإنَّه يعود إليها بنفسه أو يقدر عَلى مَنْ يسير إلى مكَّة مِنْ أهل بلده فيتعرَّف له ذلك؛ لأنَّها تقصد في كلِّ عامٍ مِنْ أقطار الأرض، فإذا كانت اللُّقَطة فيها معرَّضةً للإنشاد أبدًا أوشك أنْ يجدَها باغيها ويصلَ إليها ربُّها، فهذا الفرق بين مكَّة وسائر البلاد.
          قال الطَّحاويُّ: رواية ابنِ عَبَّاسٍ وأبي هُرَيْرَةَ السَّالفتين تمنع أخذها إلَّا للإنشاد بها، وقد أباح الحديثُ أخذ لُقَطة الحرم لتُعرَّف؛ فاحتمل أنْ يكون ذلك أنْ تُنشَد ثمَّ تُردَّ مكانها، واحتمل أنْ يكون كغيرها، وسُئلت / عائِشةُ عن ضالَّة الحرم بعد تعريفها، فقالت لمُلتَقِطَتِها: استنفقي بها، رواه عنها مُعاذةُ. وأمَّا النَّهي عن لُقَطة الحاجِّ؛ فلأنَّ الحجَّ يجمع أهل البلدان، ثمَّ عسى ألَّا يلتقوا بعد ذلك، فإذا أخذها لا يقدر على صاحبها بخلاف غيرها.
          فائدةٌ: قوله: (فَقَامَ أَبُو شَاهٍ) قال القاضي عِياضٌ: مصروفًا ضبطه _يعني بعضَهم_ وقرأتُه أنَا معرفةً ونكرةً، وكذا هُو في «المطالع»، وعن ابنِ دِحْيةَ أنَّه بالتَّاء منصوبةً. وَقال النَّوَويُّ: هو بهاءٍ في آخره تكون هاءً في الدَّرج كما تكون في الوقف، لَا خلاف في ذلك.