التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ضالة الإبل

          ░2▒ (بَابُ: ضَالَّةِ الإِبِلِ)
          2427- ذكَر فيه حديث زَيْدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ بطوله، وقد أخرجه مُسْلِمٌ والأربعة.
          ░3▒ (بَابُ: ضَالَّةِ الغَنَمِ)
          2428- ذكر فيه حديث زَيْدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ بطوله ثمَّ ترجم عليه أيضًا:
          ░4▒ (بَابُ: إِذَا لَمْ يُوجَد صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهْيَ لِمَنْ وَجَدَها) /
          2429- واختَلف العلماء في ضالَّة الإبل هل تؤخذ؟ على قولين:
          أحدهما: لا يأخذُها ولا يعرِّفها، قاله مالِكٌ والأَوْزاعيُّ والشَّافعيُّ لنَهيِه _◙_ عن ضالَّة الإبل.
          الثَّاني: أخذُها وتعريفها أفضلُ، قاله الكوفيُّون؛ لأنَّ تَرْكَها سببٌ لضياعها.
          وفيها قولٌ ثالثٌ: إنْ وجدها في القرى عرَّفها وفي الصَّحراء لا يقربها، والأصحُّ عندنا أنَّه إنْ وجده بمفازةٍ فللقاضي التقاطُه للحفظ، وكذا لغيره، ويحرم التقاطُه للتَّملُّك، وإنْ وجدَه بقريةٍ فيجوز للتَّملُّك، وأمر عُمَرُ بتعريف البعير ليدلَّ على جواز ذلك، وإنّما النَّهي عن أخذها لِمَنْ يأكلها، وهو قول عُمَرَ بنِ الخطَّاب: لا يُؤوي الضَّالة إلَّا ضالٌّ. وقد أسلفناه حديثًا مِنْ طريق جَريرٍ، وباع عُثْمانُ ضوالَّ الإبل وحبس أثمانَها على أربابها ورأى ذلك أقرب إلى جمعها عليهم؛ لفساد الزَّمان، وتركُ عُمَرُ لضوالِّ الإبل أشبهُ لمعنى قوله: ((مَعَهَا حذاؤها وسقاؤها)) الحديث، وذَلِكَ أقرب إلى جمعها على صاحبها مع جور الأئمَّة؛ لأنَّ صاحبها لا يستطيع أنْ يخاصم فيها الإمامَ الجائر ولا يجد مَنْ يحكم له عليه، ويستطيع أنْ يخاصم فيها للرَّعية فيقضي له عليه السُّلطان، وظاهر الحديث على تركها حيث وجدها، والنَّهي عن أخذها.
          قال ابنُ المنْذِرِ: وممَّنْ رأى أنَّ ضالَّة البقر كضالَّة الإبل طاوُسٌ والأَوْزاعيُّ والشَّافعيُّ، وبعض أصحاب مالِكٍ، وقال مالكٌ والشَّافعيُّ في ضالَّة البقر: إنْ وُجدت في موضع يُخاف عليها فهي بمنزلة الشَّاة وإلَّا فكالبعير. وقيل: إنْ كان لها قرونٌ تمتنع بها فكالبعير وإلَّا فكالشَّاة، حكاه ابنُ التِّينِ.
          وقال القُرْطُبيُّ: عندنا في البقر والغنم قولان، ورأى مالكٌ إلحاقَها بالغنم، ورأى ابنُ القاسِمِ إلحاقها بالإبل إذا كانت بموضعٍ لا يُخاف عليها مِنَ السِّباع، وكأنَّ هذا تفصيل أحوالٍ لا اختلاف أقوالٍ، ومثله جارٍ في الإبل، فالأولى إلحاقها بها، واختلف في التقاط الخيل والبغال والحمير، وظاهر قول ابنِ القاسِمِ الجوازُ، ومنعه أَشْهَبُ وابنُ كِنانةَ، وقال ابنُ حَبيبٍ: والخيلُ والبغالُ والعبيدُ وكلُّ ما يستقلُّ بنفسه ويذهب، هو داخلٌ في اسم الضالَّة، وقد شدَّد الشَّارع في أخذ كلِّ ما رجا أنْ يصل إلى صاحبه، فمَنْ أخذ شيئًا مِنْ ذلك في غير الفيافي فهو كاللُّقَطة، ومَنْ أخذ شيئًا مجمعًا على أخذه، ثمَّ أرسله فهو له ضامنٌ إلَّا أنْ يأخذ غير مجمعٍ على أخذه، مثل أنْ يمرَّ رجلٌ في آخر الرَّكب أو آخر الرُّفقة فيجدَ شيئًا ساقطًا، فيأخذه وينادي في أمامه: ألكم هذا؟ فيُقال: لا؛ ثمَّ يخلِّيه في مكانه فلا شيء عليه، فهذا قول مالكٍ، قال غيره: فأمَّا إذا وجد عَرضًا فأخذه وعرَّفه فلم يجدْ صاحبه، فلا يجوز له ردُّه إلى الموضع الَّذي وجدَه فيه، فإنْ فعلَ وتَلِفَ ضَمِنَهُ لصاحبه. وذكر ابنُ المنْذِرِ عن الشَّافعيِّ إنْ أخذ بعيرًا ضالًّا، ثمَّ أرسله فتَلِفَ فعليه الضَّمان، وقال ابنُ الجَوْزيِّ: الخيلُ والإبلُ والبقرُ والبِغالُ والحميرُ والشَّاءُ والظِّباءُ لا يجوزُ عندَنا التقاطُه إلَّا أنْ يأخذَها الإمامُ للحفظ. قال: وهو قول مالكٍ والشَّافعيِّ، وقال أبو حَنيفةَ: يجوز التقاطُها.
          أمَّا ضالَّة الغنم _وهو الباب الثَّاني_ فقال ابنُ المنْذِرِ: رُوِّينا عن عائِشةَ أنَّها منعت مِنْ ضالَّة الغنم ومِنْ ذبحها. وقال اللَّيث: لا أحبُّ أنْ تُعرِّف ضالَّةَ الغنم إلَّا أنْ تُحْرِزَها لصاحبها. وقال أبو حَنيفةَ والشَّافعيُّ: إنْ أكَلها فعليه الضَّمان إذا جاء صاحبُها، وهو قولُ عَبْدِ العَزيزِ بنِ أبي سَلَمَةَ وسُحْنونٍ، وقال مالِكٌ: مَنْ وجد شاةً في أرضٍ فلاةٍ وخاف عليها فهو مخيَّرٌ في أكلها وتركها ولا ضمان عليه؛ حجَّة مالكٍ أنَّ الشَّارع أذِن في أكل الشَّاة وأقام الَّذي وجدها مَقام ربِّها، فقال: ((هيَ لك أو لأخيك أو للذِّئب)) فإذا أكلها بإذن الشَّارع لم يجز أنْ يُغرَّم في حالٍ ثانٍ إلَّا بحجَّة مِنْ كتاب الله أو سنَّةٍ أو إجماعٍ، قالوا: وهذا أصلٌ في كلِّ ما يُؤخذ مِنَ الطَّعام الَّذي لا يبقى ويُسرِعُ إليه الفساد، فلِمَنْ وجده أكلُه إذا لم يمكنه تعريفُه ولا يضمنه؛ لأنَّه في معنى الشَّاة، والشَّاة في حُكم المباح الَّذي لا قيمة له، ألا ترى أنَّه _◙_ وجدَ تمرةً، فقال: ((لولا أنِّي أخشى أنْ تكون مِنَ الصَّدقة لأكلتُها)) فإنَّما نبَّه أنَّه يجوزُ أكلُها مِنْ ملك الغير لو لم تكن مِنَ الصَّدقة؛ لأنَّها في معنى التَّافه، فكذلك الشَّاة في الفلاة لا قيمة لها.
          واحتجَّ الطَّحاويُّ للكوفيِّين، فقال: ليس قوله: ((هِيَ لأخيكَ...)) إلى آخره في معنى التَّمليك عملًا بقوله: ((أو للذِّئب)) لانتفاء الملك مِنْه، وإنَّما يأكلها على ملك صاحبها وينزل على أجر مصيبها، فكذلك الواجد إنْ أكلها أكلها على ملك صاحبها فإنْ جاء ضمنها له. وقد روى ابنُ وَهْبٍ عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه أنَّ رجلًا أتى رسولَ الله _صلعم_ فقال: كيف ترى في ضالَّة الغنم؟ قال: ((طعامٌ مأكولٌ لك أو لأخيك أو للذِّئب؛ فاحبس على أخيك ضالَّته))، فهذا دليل أنَّ الشَّاة على ملك صاحبها، وأجمع العلماء أنَّ صاحبها لو جاء قبل أنْ يأكلها الواجدُ لها أخذَها مِنهْ، وكذلك لو ذبحها أخذها مِنْه مذبوحةً، وكذلك لو أكل بعضَها أخذَ ما وَجد مِنْها، فدلَّ على أنَّها ملك صاحبها في الفلوات وغيرها ولا يزول ملكه عنها إلَّا بإجماع، ولا فرق بين قوله في الشَّاة: ((هي لك أو لأخيك أو للذِّئب)) وبين قوله في اللُّقطة: ((فشَأْنُكَ بها))، بل هذا أشبهُ بالتَّمليك؛ لأنَّه لم يُشْرِكْ معه في التَّمليك ذئبًا ولا غيره.
          تنبيهاتٌ: أحدها: الضَّالَّة المراد هنا بها: ما يحمي نفسَه ويقدرُ على الإبعاد في طلب المرعى والماء، وقيل: هي الضَّائعة مِن كلِّ ما يُقتنى مِنَ الحيوان وغيره، يُقال: ضلَّ الشَّيء إذا ضاع وضلَّ عن الطَّريق إذا جار، وهي في الأصل فاعلةٌ، ثمَّ اتَّسع فيها فصارت مِنَ الصِّفات الغالبة، ويقع على الذَّكر والأنثى والاثنين والجمع ويُجمع على ضوالَّ.
          ثانيها: روى القَعْنَبيُّ، عن مالكٍ، عن يَحْيى بنِ سَعيدٍ، عن سُلَيْمانَ بنِ يَسارٍ أنَّ ثابتَ بنَ الضَّحَّاك وجد بعيرًا ضالًّا بالحرَّة، فقال له عُمَرُ: عرِّفه، فعرَّفه ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ جاء إلى عُمَرَ، فقال: قد شغلني عن ضيعتي، فقال له عُمَرُ: ألقِ خطامه ثمَّ أرسله حيث وجدته. وروى هَمَّامٌ، عن نافِعٍ وابنِ سِيرينَ أنَّ رجلًا سأل ابنَ عُمَرَ، فقال: إنِّي قد أصبت ناقةً، فقال: عرِّفها، فقال: عرَّفتها فلم تُعرَف، فقال: ادفعها إلى الوالي. وقال مالكٌ: سمعت ابنَ شِهابٍ يقول: كانت ضوالُّ الإبل في زمان عُمَرَ إبلًا مؤبَّلة تناكح لا يمسَّها أحدٌ حتَّى إذا كان زمن عُثْمانَ أمر بتعريفها ثمَّ تُباع، فإذا جاء صاحبها أُعطي ثمنها.
          وأمَّا حديث زَيْدٍ، فقيل: إنَّ فيه إشارةً أنَّه يجوز أخذُها إذا خِيف عليها، وأنَّ أَخْذَها لصاحبها وحِفْظَها عليه أولى مِنْ تركها، والمعنيُّ عنه إنَّما هو لِمَنْ يأخذها ليأكلَها وهو معنى الحديث السَّالف: ((لا يُؤوي الضَّالَّة إلَّا ضالٌّ))، كذا كان في أوَّل الإسلام واستمرَّ زمن أبي بَكْرٍ وعُمَرَ، فلمَّا كان زمن عُثْمانَ وعَلِيٍّ وكثر الفساد رأَيا التقاطَها، وَهذا كلُّه مِنْهم وفاءٌ بمقصود الحديث في التقاط الإبل، فإنَّ مقصوده أنَّها إذا أُمِنَ عليها الهلاكُ / وبقيتْ حيث تتمكَّن ممَّا يُعيشها فلا يتعرَّض لها أحدٌ، فلو تعذَّر شيءٌ مِنْ ذلك وخِيف عليها الهلاكُ التُقِطت لتُحفظَ؛ لأنَّها مالُ مُسلمٍ.
          ثالثها: إذا عرَّف المالَ وشِبْهَه وانقضى الحولُ أو قبله وجاء صاحبُه أخذه بزيادتها المتَّصلة، وكذا المنفصلةُ إنْ حدثت قبل التَّملُّك، وإنْ حدثت بعدَه رجَع فيها دون الزِّيادة.
          رابعها: إذا عرَّفها سنةً لم يملكها حتَّى يحتازه بلفظةٍ كـتملَّكت، وقيل: تكفي النِّيَّة، وقيل: تُملَّك بمضيِّ السَّنة وإنْ لم يرضَ به لرواية مُسْلِمٍ: ((فإنْ جاءَ صاحبُها فأعطِها وإلَّا فهي لك))، وقيل: لا تُملَّك ما لم تتصرَّف تخريجًا مِنَ الفرض، وقيل: تحصل بالنيِّة والتَّصرُّف، وقيل: تحصل بمجرَّد التَّصرُّف، وقيل: تحصل بالنِّيَّة واللَّفظ والتَّصرُّف، فهذه سبعة أوجهٍ لأصحابنا.
          خامسها: إذا تملَّك ولم يظهر لها صاحبٌ فلا شيءَ عليه ولا مطالبةَ في الآخرة، فإنْ تَلِفتْ بعد التَّملُّك وجاء مالكها لزم الملتقِطَ تركُها عندنا وعند الجمهور كما سبق مخالفةً لداوُدَ، والنَّصُّ يدفعُه حيث قال: (فَإنْ جَاءَ صَاحِبُها يَومًا مِنَ الدَّهرِ فَأدِّها إلَيهِ).
          سادسها: قوله: (إنَّما هيَ لكَ أو لأخيكَ أو للذِّئبِ) (أَو) فيه للتَّقسيم والتَّنويع، ويفيد هذا أنَّ الغَنم إذا كانت في موضعٍ يُخاف عليها فيه الهلاكُ جازَ لملتقِطها أكلُها ولا ضمانَ عليه، إذ سوَّى بينه وبين الذِّئب، والذِّئب لا ضمان عليه، وكذا الملتقِطُ وهو مذهب مالكٍ وأصحابه، وضمَّنه الشَّافعيُّ وأبو حَنيفةَ تمسُّكًا ببقاء ملك ربِّها عليها. قال ابنُ التِّينِ: ومشهور مذهب مالكٍ أنَّه إذا وجدها بفلاةٍ لا يُعرِّفها، ويأكلُها وَلا ضمان عليه، وعنه أيضًا: أنَّه يُعرِّفها لربِّها قال: وهو قول أبي حَنيفةَ والشَّافعيِّ.
          سابعها: قوله في ضالَّة الإبل: (فَتَمعَّرَ وَجهُ رَسُولِ اللهِ صلعم) في بعض النُّسخ: <فتغيَّر>، وهو معناه، أي تغيَّر لونُ وجهه غضبًا، وسيأتي تبويب البُخاريِّ عليه: الغضب والشِّدَّة لأمر الله [خ¦6112].
          وقوله: (مَا لَكَ وَلَها...) إلى آخره، أخذ به الثَّلاثةُ وخالف أبو حَنيفةَ فمكَّن مِنْها.