التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه لأنها وديعة عنده

          ░9▒ (باب: إِذَا جَاءَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ رَدَّهَا عَلَيْهِ: لأَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ)
          2436- ذكر فيه حديث زَيْدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنيِّ أيضًا، وفيه: (ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ).
          وقد أجمع أئمَّة الفتوى على أنَّ صاحب اللُّقَطة إذا جاء بعد الحول أنَّ الَّذي وجدها يلزمه ردُّها إليه لقوله: (فَأَدِّهَا إِلَيهِ)، وقد أسلفنا أنَّ بعض مَنْ يُنسب إلى العلم _وحظُّه مِنْه أنْ يوسم مِنْه مخالفة الأئمَّة_ خالف إجماعَهم في اتِّباع هذا الحديث، وخالف قولَه _◙_: (فَأَدِّهَا إِلَيهِ)، وقال: لا يؤدِّي إليه شيئًا بعد الحول؛ استدلالًا مِنْه بما سلف مِنْ قوله: (فَشَأْنَكَ بِهَا) لأنَّ هذا إطلاقٌ مِنْه على مُلكِها ولا يلزمه تأديتُها، وهذا قولٌ يؤدِّي إلى تناقض السُّنن، وقدْ جلَّ الشَّارع أنْ تتناقض سُننه.
          وقوله: (فَأَدِّهَا إِلَيهِ) فيه بيانٌ وتفسيرٌ لقوله: (فَشَأنَكَ بِهَا) ولو كان المراد بقوله: (فَشَأنَكَ بِهَا) انطلاقَ يده عليها وسقوطَ ضمانها عنه لبطلت فائدة قوله: (فَأَدِّهَا إِلَيهِ)، واستعمال الحديثين لفائدتين أولى مِنْ إسقاط إحداهما، هذِه طريقة العلماء في التَّأليف بين الآثار والقضاء بالمجمل على المفسَّر، واختلفوا هل للواجد بعد الحول أنْ يأكلها أو يتصدَّق بها، فرُوِيَ عن عليٍّ وابنِ عباس أنه يتصدَّق بها ولا يأكلُها، وهو قولُ سعيدِ بن المسيب والحسن والشَّعبي وإليه ذهب الثوري، وقال أبو حنيفة: لا يأكلها الغني، والفقير يأكلُها بشرطِ الضمان، وروى ابنُ القاسم عن مالكٍ أنه استحبَّ له أن يتصدَّق بها، وَقد أسلفنا هذا عنه، وروى ابنُ وَهْبٍ عنه: إنْ شاء أمسكَها وإنْ شاء استنفقَها، وإنْ شاء تصدَّق بها فإنْ جاء صاحبها أدَّاها إليه، ورُوي مثل هذا عن عُمَرَ وابنِ مَسْعُودٍ وابنِ عُمَرَ وعائِشةَ وهو قول عَطاءٍ، وبه قال الشَّافعيُّ وأَحْمَدُ وإسْحاقُ.
          وقوله: (ثُمَّ اسْتَنفِقْ بِهَا) حجَّة لِمَنْ قال: يصنع بها ما شاء مِنْ صدقةٍ بها أو أكلٍ أو غيره لعمومه، ولم يخصَّ وجهًا يستنفقها فيه مِنْ غيره، وأيضًا فإنَّه لِما قال: (اسْتَنفِقْ بِهَا) لم يفرِّق بين الغنيِّ والفقير، دلَّ على ردِّ قول أبي حَنيفةَ.
          تنبيهان: الأوَّل: إنَّما لم يذكر البُخاريُّ في هذا الباب رواية سُلَيْمانَ بنِ بِلالٍ عن يَحْيى بنِ سَعيدٍ: وكانتْ وَديعةً عنده، وذكرها في باب: ضالَّة الغنم [خ¦2428]؛ لأنَّه قد بيَّن سُلَيْمانُ في الحديث: أنَّ يَحْيى بنَ سَعيدٍ قال عن يَزيدَ مولى المنْبَعِثِ: لا أدري أفي حديث رَسُول الله _صلعم_ هو أم شيءٌ مِنْ عنده؟ فاستراب البخاريُّ بهذا الشَّكِّ، وترجم بالمعنى ولم يذكره في الحديث؛ لأنَّه استغنى بقوله: (فَأَدِّهَا إِلَيهِ) عَن قوله: وكانت وديعةً عنده.
          ثانيهما: ترجمة البُخاريِّ السَّالفة إذا لم يوجد صَاحب اللُّقَطة بعد سنةٍ فهي لِمَنْ وجدها، اعترضَ عليها ابنُ التِّينِ، فقال: ليس هو بقول مالِكٍ ولا أحدٍ مِنْ فقهاء الأمصار، واحتجَّ البخاريُّ بقوله: (فَشَأنَكَ بِهَا) أي خذها بشرط الضَّمان إنْ جاء صاحبُها بدليل رواية الباب، وحينئذٍ فلا تنافيَ بينهما، وتأويل ذلك منافٍ، فما جمعنا به هو الصَّواب.
          فائدةٌ: في الحديث: (حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتاهُ، أَو احْمَرَّ وَجْهُهُ) الظَّاهر أنَّه مِنَ الرَّاوي، والوجْنَةُ مثلَّثة الواو، ووجَِنة: بفتح الجيم وكسرها، قاله كُراعٌ، زاد غيره: أُجْنَةٌ بضمِّ الألف، وهي أعلى الخدِّ: العظمُ المُشرِف عليه، والجمع: وَجَناتٌ.