شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الصلاة في كسوف القمر

          ░17▒ باب الصَّلاةِ في كُسُوفِ القَمَرِ.
          فيه: أَبُو بَكْرَةَ قَالَ: (انكَسَفَتِ(1) الشَّمْسُ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ(2) صلعم، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، فَانْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ لا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ(3)، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا وَادْعُوا) الحديث. [خ¦1062]
          اختلف العلماء في خسوف(4) القمر هل يجمع له الصَّلاة(5)، فذهبت طائفةٌ إلى أنَّه يجمع فيه كما يجمع في كسوف الشَّمس سواءٌ، رُوي ذلك عن عثمان بن عفَّان وابن عبَّاسٍ، وبه قال النَّخعيُّ، وعطاءٌ والحسن، وإليه(6) ذهب الشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ وأهل الحديث، واحتجُّوا بقوله صلعم في هذا الحديث(7): (فإذا رَأيتُم ذلكَ فصلُّوا وادعوا)، قالوا: قد(8) عرفنا كيف الصَّلاة في أحدهما(9)، فكان ذلك دليلًا على الصَّلاة(10) عند الأخرى، وإلى هذا المعنى أشار البخاريُّ في ترجمته، ولذلك ذكر كسوف الشَّمس وترجم عليه الصَّلاة في كسوف القمر استغناءً بذكر أحدهما عن الأخرى(11).
          وقال(12) مالكٌ(13) والكوفيُّون: لا يجمع في كسوف القمر(14)، ولكن يصلِّي النَّاس فرادى(15) ركعتين ركعتين كسائر النَّوافل، غير أنَّ اللَّيث قال(16): هيئة الصَّلاة فيه كهيئة الصَّلاة في كسوف(17) الشَّمس، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة. وحجَّة مالك ومن وافقَه أنَّ النَّبيَّ صلعم جمع في كسوف الشَّمس ولم يجمع في كسوف القمر(18)، فعُلم أنَّ معنى(19) قوله صلعم: (فَافْزَعوا إِلى الصَّلاةِ) في كسوف القمر فرادى، وفي كسوف الشَّمس(20) جماعةً.
          قال ابن القصَّار: وأهل المدينة بأسرهم على هذا، والمعهود أنَّ كسوف(21) القمر يقع أبدًا(22) ولا يكاد يخلو منه عامٌ، وكسوف الشَّمس نادرٌ، ومحالٌ أن يكون كسوف القمر مألوفًا والنَّبيُّ صلعم يجمع له مدَّة حياته فيهم ثمَّ يخفى عليهم ذلك جملةً، ويقول(23) مالكٌ: لم يبلغنا ولا أهل بلدنا أنَّ النَّبيَّ ◙ جمع لكسوف(24) القمر، ولا نُقل عن أحدٍ من الأئمَّة بعد النَّبيِّ أنَّه جمع فيه.
          قال المُهَلَّبُ: ويمكن أن يكون معنى(25) تركه _والله أعلم_ الجمعَ في كسوف القمر رحمةً للمؤمنين لئلَّا تخلو بيوتهم باللَّيل، فتحطمهم النَّاس ويسرقونهم، يدلُّ على ذلك قوله ◙ لأمَّ سلمة ليلة نزول التَّوبة على كعب بن مالكٍ وصاحبيه، حين(26) قالت له: ألا أبشِّر النَّاس؟ فقال ◙: ((أَخشَى أنْ يَحطِمَكمُ النَّاسُ))، وفي حديثٍ آخر: ((أَخْشَى أنْ يَمنعَ النَّاسَ نومَهمُ)). وقد قال تعالى: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ(27) لِتَسْكُنُوا فِيهِ}[القصص:73]، فجعل السُّكون في اللَّيل(28) من النِّعم التي عدَّدها على عباده، وسمَّى ذلك رحمةً، وقد أشار ابن القصَّار إلى نحو هذا المعنى فقال: خسوف القمر يتَّفق ليلًا فيشقُّ الاجتماع له، وربَّما أدرك النَّاسَ نيامًا، فيثقل عليهم الخروج لها، ولا ينبغي أن يقاس على خسوف(29) الشَّمس لأنَّه يدرك النَّاس مستيقظين منصرفين، ولا(30) يشقُّ / اجتماعهم كالعيدين(31) والجمعة والاستسقاء، ولم نر(32) صلاة جمعةٍ ولا عيدٍ ولا استسقاءٍ جُعِلت(33) باللَّيل.


[1] في (ص): ((كُسِفَت)).
[2] في (ق): ((عهد النبي)).
[3] زاد في (ق): ((ولا حياته)).
[4] في (م): ((كسوف)).
[5] في (ص): ((للصلاة)).
[6] في (م) و(ق): ((قال عطاء والنخعي وإليه)).
[7] قوله: ((في هذا الحديث)) ليس في (م) و(ق).
[8] في (م): ((وقد)).
[9] في (م): ((إحداهما)).
[10] قوله: ((على الصلاة)) ليس في (م).
[11] في (م): ((الآخر)).
[12] في (ي): ((قال)).
[13] زاد في (م) و(ق): ((والليث)).
[14] قوله: ((استغناء بذكر أحدهما...في كسوف القمر)) ليس في (ص).
[15] في (م): ((أفرادًا)).
[16] زاد في (م): ((إن)).
[17] في (م): ((كهيئة صلاة كسوف)).
[18] قوله: ((ولم يجمع في كسوف القمر)) تكرر في (ص).
[19] في (ص): ((النوافل)) وضرب عليها.
[20] زاد في (م): ((في))، و في (ق): ((وكسوف الشمس في)).
[21] في (ص): ((خسوف)).
[22] في (ي): ((ابتداء)).
[23] في (ق): ((وبقول))، في (ص): ((وقول)).
[24] في (م): ((لخسوف)).
[25] في النسخ غير (م): ((مع)) والمثبت من (م).
[26] قوله: ((حين)) ليس في (ص).
[27] زاد في (ص): ((والنهار)).
[28] في (م): ((السكون بالليل)).
[29] في (ق) و(ص): ((كسوف)).
[30] في (م) و(ق): ((فلا)).
[31] في (ق): ((كالعيد)).
[32] في (ق): ((ولم تر)).
[33] (ي): ((فعلت)).