شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف

          ░10▒ بابُ صَلاةِ النِّسَاءِ مَعَ النَّبِيِّ صلعم في الكُسُوفِ.
          فيه: أَسْمَاءُ قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ حِينَ خَسَفَتِ(1) الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هي قَائِمَةٌ تُصَلِّي، فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إلى السَّمَاءِ، وَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللهِ، فَقُلْتُ(2): آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ، أي(3) نَعَمْ، قَالَتْ: فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلانِي الْغَشْي، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي الْمَاءَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْ شَيْءٍ(4) لَمْ أَرَهُ إِلا قَدْ رَأَيْتُهُ في مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ(5) إليَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ _لا أدري أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ(6)_ يُؤْتَى أَحَدُكُمْ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ _لا أدري أيُّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ(7)_ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا فقَدْ(8) عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤمنًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ _لا أدري أَيَّهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ_ فَيَقُولُ(9): لا أدري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ). [خ¦1053]
          فيه من الفقه: حضور النِّساء صلاة الكسوف(10) مع الجماعة في المساجد، ورخَّص(11) مالكٌ والكوفيُّون للعجائز في ذلك وكرهَه للشَّابة(12)، وقال الشَّافعيُّ: لا أكره لمن لا هيئة لها بارعةً من النِّساء ولا للصَّبيَّة شهود صلاة الكسوف مع الإمام، بل أحبُّه(13) لهنَّ، وأحبُّ(14) لذات الهيئة أن تصلِّيها(15) في بيتها، ورأى إسحاق أن يخرجن شبابًا كنَّ أو عجائزًا ولو(16) كنَّ حيَّضًا وتعتزل الحُيَّض المسجد ويقربن(17) منه.
          وفيه(18): جواز استماع المصلِّي إلى ما يخبره به من ليس في صلاةٍ. وفيه: جواز(19) إشارة المصلِّي بيده وبرأسه(20) لمن يسأله مرَّةً بعد أخرى؛ لأنَّ أسماء قالت: (فَقُلتُ آيةً؟ فَأَشَارَت عَائِشَة أَيْ(21) نَعَم)، فإنَّما(22) أشارت(23) برأسها(24) وقد كانت أشارت قبل ذلك(25) إلى السَّماء.
          وفيه: أنَّ صلاة الكسوف قيامها طويلٌ لقولها: (فَقُمْتُ(26) حَتَّى تَجَلَّاني الْغَشْيُ)، وهو حجَّةٌ لمالكٍ والشَّافعيِّ على أبي حنيفة في قوله: إنَّ صلاة الكسوف إن شاء قصَّرها كالنوافل.
          وقولها: (فَجَعَلْتُ أَصُبُّ فوْقَ رَأْسِي الماء) فيه دليلٌ على جواز العمل اليسير في الصَّلاة.
          وفيه: أنَّ تفكُّر المصلِّي / ونظره إلى قبلتِه في صلاته جائزٌ لقوله صلعم: (مَا مِن شَيء كنْتُ لم أَرَهُ إلا قدْ رَأَيته في مَقَامِي هذا وأُوحي إليَّ أنكم تُفتنونَ في القُبور)، وذلك كلُّه في الصَّلاة.
          وفيه: أنَّ فتنة القبور(27) حقٌّ كما يقول أهل السُّنَّة(28). وفيه: أنَّ من ارتاب في تصديق النَّبيِّ صلعم أَوْ شَكَّ في صحَّة رسالته فهو كافرٌ، ألا ترى قول المنافق أو المرتاب: (لا أَدْرِي) فهذا لم يؤمن بالنَّبيِّ صلعم لما دخله من(29) الارتياب والنِّفاق، ومن لم يدر فقد نفى عن نفسه التَّصديق، ثمَّ زاد شكَّه(30) بيانًا بقوله: (سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُون شيئًا فقلته)، فأخبر أنَّه إنَّما جرى تصديق النَّبيِّ صلعم على لسانه من أجل قول النَّاس ذلك، لا من أجل اعتقاده لصحَّة ما جرى على لسانه(31) وهذا هو حقيقة الرَّيب، أن يقول اللِّسان ما لا يعتقد صحَّته القلب.
          وفيه: أنَّ تمام الإيمان وتمام العلم إنَّما هو المعرفة بالله ورسله، ومعرفة الدَّلالة على ذلك؛ ألا ترى أنَّ النَّبيَّ صلعم نفى الإيمان عمَّن يقول إذا سُئل عن نبيِّه ◙ يقول(32): (لا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُون شيئًا فقلته). وفيه(33): ذمُّ التَّقليد وأنَّ المقلِّد لا يستحقُّ اسم العلم التَّامِّ على الحقيقة.
          فإن قال قائلٌ: كيف قلت: إنَّ تمام الإيمان وتمام العلم هو المعرفة بالله ╡ ورسوله، ومعرفة الدَّلالة على ذلك وقد رُوي عن السَّلف أنَّهم كانوا يقولون عليكم بدين العذارى، والعذارى لا علم عندهنَّ بالدَّلالة على الإيمان، وإنَّما عليهنَّ(34) التَّقليد وأنت قد ذممت التَّقليد؟
          قيل: قد جاءت هذه الكلمة في حديث عبيد الله بن عديِّ بن الخيار حين(35) كلَّم خاله عثمان بن عفَّان في أخيه الوليد بن عقبة، وقال له: قد أكثر النَّاس في شأن الوليد، فحقٌّ عليك أن تقيم عليه الحدَّ، فقال: يا ابن أخي(36)، أدركتَ رسول الله صلعم؟ قلت(37): لا، ولكن قد خلص إليَّ من علمِهِ ما خلص إلى العذارى(38) في سترها، وذكر الحديث(39)، ذكره البخاريُّ في كتاب فضائل الصَّحابة في باب هجرة الحبشة [خ¦3872].
          ومعنى قولهم: دين العذارى هو أنَّ النَّبيَّ صلعم(40) بلَّغ عن ربِّه دينه حتَّى وصل ذلك(41) إلى العذارى في خدورهنَّ، فعلمنه خالصًا لم يُشب، وقد ألزم(42) الله تعالى المؤمنين أن يُعلِّموا ذريَّتهم حقيقة الإيمان بقوله تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}[التحريم:6]، فكلُّ مؤمنٍ يُعَلِّمُ بنيه في(43) الصِّغر خالص الإيمان، وما يلزمه من فرائضه، ولا يعلِّمه(44) اعتراض الملحدين ولا شُبه(45) الزَّائغين لأنَّ الجدال فيه ربَّما أورث شكًّا، فإيمان العذارى التَّصديق الخالص الَّذي لا ريب فيه ولا شكَّ، بخلاف أحوال المنافق والمرتاب(46) الَّذي قال: (لا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيئًا فَقُلْتُهُ).
          ولم يُرد بقوله: عليكم بدين العذارى، ترك(47) معرفة الاستدلال على حقائق الإيمان والازدياد من العلم، هذا إبراهيم خليل الرَّحمن(48) سأل ربَّه أن يريه كيف يحيي الموتى، وإنَّما سأله تعالى زيادةً في العلم يطمئن بها نفسه(49)، ولم يكن قبلها شاكًّا(50). وهذه عائشة ♦(51) تردُّ على عبد الله بن عُمَر في البكاء على الميِّت وغير ذلك وتقول: رحم(52) الله أبا عبد الرَّحمن إنَّما أراد رسولُ الله صلعم خلاف ما ذهب إليه ابن عمر، وتردُّ على عروة بن الزُّبير(53) تأويله في الطَّواف بين الصَّفا والمروة، وقالت عائشة(54) أيضًا: نعم النِّساء نساء الأنصار لم يمنعهنَّ الحياء من الفقه(55) في الدِّين، فحكمت لهنَّ بالفقه في الدِّين(56)، والفقه في لسان العرب هو معرفة(57) الشِّيء ومعرفة الدَّلالة على صحَّته، فلا خلاف بين شيءٍ من ذلك.
          وقوله: (تَكَعْكَعْتَ) يعني تأخَّرت يقال: كعَّ الرَّجل إذا نكص على عقبيه(58).


[1] في (ص): ((خُسِفَت)) بضبط الحركات.
[2] في (م) و (ق): ((قلت)).
[3] في (م) و (ق): ((أن)).
[4] زاد في (م) و (ق): ((كنت)).
[5] في (م) و (ق): ((والنار وأوحي)).
[6] قوله: ((لا أدري أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ)) ليس في (م) و(ق).
[7] قوله: ((لا أدري أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ)) ليس في (م) و (ق).
[8] في (م) و(ق) و(ص): ((قد)).
[9] في (م) و(ق): ((وأما المنافق والمرتاب فيقول)).
[10] في (ص): ((الخسوف)).
[11] في (م) و(ق): ((في المساجد واختلف الفقهاء في من يشهدها من النساء فرخص)).
[12] في (م) و (ق): ((للعجائز ان يخرجن في الكسوف وكرهوا ذلك للشابة)).
[13] في (م): ((أحبها)). في (ص): ((أوجبه)).
[14] في (ص): ((وأوجب)).
[15] في (م) و (ق): ((تصلي)).
[16] في (ق): ((عجاز أو)). في (ص): ((وإن)).
[17] لعل الصواب: ((ولا يقربن)) كما في «عمدة القاري».
[18] في (ص): ((فيه)).
[19] قوله: ((جواز)) ليس في (م) و(ق).
[20] في (م): ((أو رأسه))، و في (ق): ((أو برأسه))، في (ص): ((ورأسه)).
[21] في (م): ((أن)).
[22] في (م) و(ق): ((وإنما)).
[23] زاد في (ق): ((أن نعم)).
[24] قوله: ((برأسها)) ليس في (م).
[25] في (م) و (ق): ((أشارت بيدها)).
[26] في (ص): ((قمت)).
[27] في (م) و (ق): ((القبر)).
[28] قوله: ((وفيه: أن فتنة القبور حق كما يقول أهل السنة)) ليس في (ي).
[29] في (ق): ((إنما ذلك من)).
[30] في (م) و (ق): ((ذلك)).
[31] قوله: ((من أجل قول النَّاس...ما جرى على لسانه)) ليس في (ص).
[32] قوله: ((يقول)) ليس في (م) و (ق).
[33] في (م) و(ق): ((ففيه)).
[34] في (م): ((علمهن)).
[35] في (ق): ((حتى)).
[36] في (ق) و(م) و(ص): ((أختي)).
[37] في (ص): ((فقلت)).
[38] في (ص): ((العذرى)).
[39] قوله: ((وذكر الحديث)) ليس في (م) و (ق).
[40] زاد في (م): ((قد)).
[41] قوله: ((وصل ذلك)) ليس في (م)، و قوله: ((ذلك)) ليس في (ق).
[42] في (ص): ((أعلم)).
[43] زاد في (م): ((حال)).
[44] في (م): ((ولا يعلمهم)).
[45] في (م) صورتها: ((بشبه)).
[46] في (م): ((أو المرتاب)).
[47] في (ص): ((تركه)).
[48] في (م): ((إبراهيم الخليل صلعم)).
[49] في (ص): ((قلبه)).
[50] في (ق): ((سأله)).
[51] قوله ((♦)) ليس في (م) و(ص).
[52] في (م)و(ق) و (ي): ((يرحم)).
[53] زاد في (م) و(ق): ((في)).
[54] قوله: ((عائشة)) ليس في (م) و(ق).
[55] في (م)و(ق) و (ي): ((التفقه)).
[56] قوله: ((في الدين)) ليس في (م) و(ق).
[57] في (ق): ((فهم)).
[58] قوله: ((وقوله: (تكعكعت)، يعني تأخرت يقال: كع الرجل: إذا نكص على عقبيه)) ليس في (ق) وجاء في (م) بعد قوله المتقدم: ((ولذلك لم يصلح لهم أكله في الدنيا)).