شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب23

          ░12▒ بابٌ
          فيهِ أَبُو بَكْرٍ: (انْطَلَقْتُ فَإِذَا(1) بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ، فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، / [فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ في غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ قَالَ(2): نَعَمْ، قُلْتُ(3): فهَلْ(4) أَنْتَ حَالِبٌ لَنَا(5)؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنَ الغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ، فَقَالَ: هَكَذَا ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالأُخْرَى، فَحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلعم إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبيِّ صلعم](6) فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيْتُ). [خ¦2438]
          قال المؤلِّفُ: سألتُ بعضَ شيوخي عن وجهِ استجازةِ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ(7) لشربِ اللَّبنِ مِنْ ذلك الرَّاعِي، فقالَ لي: يحتمل أنْ يكونَ النَّبيُّ صلعم قد كانَ(8) أَذِنَ له في الحربِ، وكانت أموالُ المشركينَ له حَلالًا فعرضتُه على المُهَلَّبِ بنِ أبي صُفْرَةَ فقالَ لي: ليس هذا بشيءٍ، لأنَّ الحربَ والجهادَ إنَّما فُرِضَ بالمدينةِ، وكذلك المغانمُ إنِّما نَزَلَ تحليلُها يومَ بدرٍ بنصِّ القرآنِ.
          (9) وإنَّما شَرِبَ رسولُ اللهِ صلعم وأبو بَكْرٍ ذلك اللَّبنَ بالمعنى المتعارفِ عندَهم في ذلك الزَّمنِ مِنَ المكارماتِ، وبما استفهمَ به أبو بَكْرٍ الرّاعيَ مِنْ أنَّه حالبٌ أو غير حالبٍ، ولو كانَ بمعنى(10) الغنيمةَ ما استفهمَه، ولحلب على ما أراد الرَّاعي أو كَرِه، ولساقَ الغنمَ غنيمةً، ولقتلَ(11) الرَّاعيَّ إن شاءَ أو أخذَه أسيرًا.
          والدَّليلُ على صِحَّةِ هذا التَّأويلِ وأنَّ شربَ اللَّبنِ كان على وجهِ العادةِ عندَهم مَا ذكره أبو عليٍّ البغداديُّ، قالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ دُرَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ عَنِ(12) الثَّوْرِيِّ عَنْ أبي عُبَيْدَةَ قال: مرَّ رجلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ بامرأةٍ مِنْ كَلْبٍ فَقَالَ لَهَا: هَلْ مِنْ لَبَنٍ يُباعُ؟ فَقَالَتْ: إِنِّكَ لَلِئِيمٌ أَوْ حَدِيثُ عَهْدٍ بقومٍ لِئَامٍ، هَلْ يبيعُ الرِّسْلَ كريمٌ أو يمنعُه إلَّا لئيمٌ؟! إنَّا لندعُ الكومَ لأضيافِنا تكوسُ إذا عكفَ الزَّمنُ الضَّروسُ ونغلي اللَّحم غريضًا ونهبتُه(13) نضيجًا.
          قال أبو عليٍّ: الرِّسْل اللَّبنُ، وتكوس تمشي على ثلاثٍ، وتغلي مِنَ الغلا.
          قالَ المُهَلَّبُ: وقد قال أخي أبو عبدِ اللهِ: إنَّ هذا الحديثَ لا يعارضُ قوله ◙: ((لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيةَ أَحَدٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ))، لأنَّ هذا قاله ◙ لمَّا عَلِمَ أنَّه سيكونُ مِنَ التَّشَاحِّ وقلَّةِ المواساةِ.
          قالَ المُهَلَّبُ: والحديثُ معناه: لا يهجمنَّ أحدُكم على ماشيةِ غيرِه فيحلبَها بغيرِ إذنِهِ أو غير إذنِ راعيها الَّذي له حكمُ العاداتِ فيما استرعي فيه مِنَ المعروفِ، فكان بين الحديثينِ فَرْقٌ يمنعُ مِنَ التَّعارُّضِ.
          وفي(14) حديثِ أبي بَكْرٍ مِنَ الأدبِ والتَّلَطُّفِ(15) ما صنعه أبو بَكْرٍ مِنْ أمرِهِ(16) بنفضِ يدِ(17) الرَّاعي، ونفضِ الضَّرعِ، وخدمتِه النَّبيِّ(18) صلعم وإلطافِهِ به ما يجبُ أن يُمْتَثَلَ(19) في كلِّ عالمٍ وإمامٍ(20)، والله الموفِّقُ، وقد ذكرتُ تفسير الكثبةِ في هذا الحديثِ في(21) كتابِ الأشربةِ في(22) شربِ اللَّبنِ [خ¦5607].


[1] زاد في (ز): ((أنا)).
[2] في المطبوع: ((فقال)).
[3] في المطبوع: ((فقلت)).
[4] في المطبوع: ((هل)).
[5] في المطبوع: ((لي)).
[6] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).
[7] قوله: ((الصِّدِّيق)) ليس في (ز).
[8] قوله: ((كان)) ليس في (ز).
[9] زاد في (ز): ((قال)).
[10] صورتها في (ز): ((لمعنى)).
[11] في (ز): ((وقتل)).
[12] في (ز): ((قال أبو عثمان السَّامدانيُّ)).
[13] في (ز): ((ونبيه)).
[14] في المطبوع: ((في)).
[15] في (ز): ((والتَّنظُّف)).
[16] قوله: ((أبو بكر من أمره)) ليس في (ص).
[17] في (ز): ((يدي)).
[18] في (ز): ((للنَّبيِّ)).
[19] في المطبوع: ((يتمثَّل به)).
[20] زاد في (ز): ((عادل)).
[21] في المطبوع: ((وفي)).
[22] زاد في (ز): ((باب)).