شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة؟

          ░7▒ بَابُ كَيْفَ تُعَرَّفُ لُقَطَةُ أَهْلِ مَكَّةَ؟
          وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم: (لاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَقَالَ مرةً: عَنِ النَّبِيِّ صلعم: لاَ(1) تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلاَ لِمُنْشِدٍ).
          وفيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ: (لَمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ صلعم قَامَ(2) في النَّاسِ فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ(3)، فلا تَحِلُّ لأَحَدٍ كَانَ(4) قَبْلِي، وَإِنَّها أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ(5) بَعْدِي فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا(6)، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلاَ لِمُنْشِدٍ) الحديثَ. [خ¦2432]
          اختلفَ العلماءُ في لُقَطَةِ مَكَّةَ، فقالت طائفةٌ: حكمُ لقطتها حكمُ(7) لُقَطَةِ سائرِ البلدانِ. قال ابنُ المُنْذِرِ: روينا هذا القولَ عن عُمَرَ وابنِ عَبَّاسٍ وعائشةَ وسَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ، وبه قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفةَ وأحمدُ بنُ حنبلٍ.
          وقالت طائفةٌ:(8) لا تحلُّ البتَّةَ، وليس لواجدِها إلَّا إنشادها، هذا قولُ الشَّافعيِّ وابنِ مَهْدِيٍّ وأبي عُبَيْدٍ، قال ابنُ مَهْدِيِّ: معنى قوله(9): (لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا) كأنَّه يُرِيدُ البتَّةَ، فقيلَ له(10): إلَّا لِمُنْشِدٍ؟ فقال: إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وهو يُرِيدُ المعنى الأوَّل، كما يقول الرَّجُلُ: والله لأفعلنَّ كذا وكذا، ثمَّ يقولُ: إنْ شاءَ الله، وهو لا يُرِيدُ الرُّجُوعَ عن يمينِه، ولكنَّه لُقِّنَ شيئًا فلُقِّنَه(11)، فمعناه أنَّه ليس يحلُّ له(12) منها إلَّا إنشادها، فأمَّا الانتفاعُ بها فلا يجوزُ.
          وفيها قولٌ ثالثٌ: قال جَرِيرُ بنُ عبدِ اللهِ الحميديُّ(13) قوله: (إِلَّا لِمُنْشِدٍ) يعني: إلَّا مَنْ سمع ناشدًا يقولُ: مَنْ أصابَ كذا، فحينئذٍ يجوزُ للمُلْتَقِطِ أن يرفعَها إذا رآها، لكي يردَّها على صاحبِّها، ومال إِسْحَاقُ بنُ راهويه إلى هذا القولِ، وقالَه النَّضْرُ بنُ شُمَيلٍ.
          وفيها قولٌ رابعٌ: يعني لا تحلُّ إلَّا لربِّها الَّذي يطلبُها، قال أبو عُبَيْدٍ هو(14) جيدٌ(15) في المعنى ولكن لا يجوزُ في العربيَّةِ أن يُقال للطَّالبِ: منشدًا، إنَّما المنشدُ المُعَرِّفُ، والطَّالبُ هو النَّاشِدُ، يدلُّ على ذلك أنَّ الرَّسُولَ(16) صلعم سمع رجلًا ينشدُ ضَالَّةً في المسجدِ فقال: ((أَيُّهَا النَّاشِدُ غَيْرُكَ الوَاجِدُ))، قال أبو عُبَيْدٍ: وليس للحديثِ وجهٌ إلَّا ما قالَه(17) ابنُ مَهْدِيٍّ.
          قال المؤلِّفُ: ولو كان حُكْمُ لُقَطَة مَكَّةَ كحُكْمِ لُقَطَة غيرِها ما كانَ لقولِه(18): (لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ)، معنى تختصُ به مَكَّةُ كما تختصُّ بسائرِ ما وُكِّدَ في هذا الحديثِ لأنَّ لُقَطَةُ غيرِها(19) كذلك يحلُّ لمنشدِها بعد الحولِ الانتفاعُ بها، فدلَّ مساقُ هذا الحديثِ كلِّه على تخصيصِ مَكَّةَ ومخالفةِ لقطتِها لغيرِها مِنَ البلدانِ، كما خالفتَها في كلِّ ما ذُكِرَ في الحديثِ مِنْ أنَّها حرامٌ لا تحلُّ لأحدٍ ساعةً مِنْ نهارٍ بعد النَّبِيِّ صلعم، وأنَّه لا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، ولا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وغيرُ ذلك ممَّا خُصَّتْ به مِنْ أنَّه لم يُسْتَبَحْ دماءُهم ولا أموالُهم، ولا جرى فيهم الرِّقُّ كغيرِهم.
          ومِنَ الحُجَّةِ أيضًا لذلك أنَّ المُلْتَقِطَ إنَّما يتملَّكُ اللُّقَطَةَ في غيرِ مَكَّةَ بعد الحولِ، حفظًا لها على ربِّها وحرزًا لها لأنَّه لا يقدرُ على إيصالِها إليه ويخشى تلفَها، فيتملُّكُها وتتعلَّقُ قيمتَها بذمَّتِه، ولُقَطَةُ مَكَّةَ يمكن إيصالُها إلى ربِّها، لأنَّه إن كانَ مِنْ أهلِ مَكَّةَ فإن معرفتَه تَقْرُبُ، وإن كان / غريبًا لا يقيمُ بها فإنَّه يعودُ إليها بنفسِه أو يقدرُ على مَنْ يسيرُ(20) إلى مَكَّةَ مِنْ أهلِ بلدِه فيتعرَّفَ له ذلك لأنَّها تُقْصَدُ في كلِّ عامٍ مِنْ أقطارِ الأرضِ، فإذا كانت اللُّقَطَةُ فيها معرَّضةً للإنشادِ أبدًا أوشكَ أن يجدَها باغيها ويصلَ إليها ربُّها، فهذا الفرقُ بين مَكَّةَ وسائرِ البلادِ.


[1] في (ز): ((ولا)).
[2] زاد في (ز): ((قام النَّبيُّ صلعم)).
[3] في (ص): ((والمؤمنون)).
[4] قوله: ((كان)) ليس في (ز).
[5] في (ص): ((وإنَّها لن تحلَّ لأحدٍ مِنْ)).
[6] قوله: ((فلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا)) ليس في (ز).
[7] في (ز): ((حكم)).
[8] زاد في (ز): ((إنَّ لقطتها)).
[9] زاد في (ص): ((إلَّا لمنشدٍ)).
[10] قوله: ((لا تحلُّ لقطتها، كأنَّه يريد البتَّة، فقيل له)) ليس في (ز)، وهو مثبت من المطبوع.
[11] قوله: ((ولكنَّه لقِّن شيئًا فلقِّنه)) ليس في (ص).
[12] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[13] في (ز): ((جرير بن عبد الحميد)).
[14] في (ز): ((وهو)).
[15] في (ص) تحتمل: ((خبر)).
[16] في (ز): ((النَّبيَّ)).
[17] في (ز): ((قال)).
[18] في (ص): ((قوله)).
[19] في (ص): ((معنى تختصُّ به مكَّة دون غيرها)).
[20] صورتها في (ز): ((يصير)) بغير نقاط.