شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا تحتلب ماشية أحد بغير إذن

          ░8▒ بَابُ لاَ تُحْلبُ(1) مَاشِيَةُ أَحَدٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ
          فيهِ ابنُ عُمَرَ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: لاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، فَيُنْتَقَلَ(2) طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا(3) تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلاَ يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَ بِإِذْنِهِ). [خ¦2435]
          قال: أجمعَ العلماءُ أنَّه لا يجوزُ كسرُ قفلِ مسلمٍ ولا ذِمِّيٍّ، ولا أخذُ شيءٍ مِنْ مالِه بغير إذنِه، وشبَّه رَسُولُ اللهِ صلعم اللَّبنَ في الضَّرعِ بالطَّعامِ المخزونِ(4) تحت الأقفالِ، وهذا هو قياسُ الأشياءِ على نظائرِها وأشباهِها، أرانا رَسُولُ اللهِ صلعم بهذا المثلِ قياسَ الأمورِ(5) إذا تشابهتْ معانيها، فوجب امتثالُ ذلك واستعمالُه خلافًا لقولِ مَنْ أبطلَ القياسَ.
          وقوله: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ) فمعناه أن يكرَه المسلمُ لأخيه المسلمِ ما يكرهُه لنفسِه، وهذا في معنى قولِه ◙: ((لَا يَحِلُّ مَالُ امرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيْبِ نَفْسٍ مِنْهُ)).
          وأكثرُ العلماءِ يجيزُ أكلَ مالِ الصَّديقِ إذا كانَ تافهًا لا يُتشاحُّ في مثلِه، وإن كانَ ذلك بغير إذنِه ما لم يكن تحت قفلِه، وقال أبو عبدِ اللهِ بنِ أبي صُفْرَةَ: وهذا الحديثُ لا يُعارضُ حديثَ الهجرةِ حين قال أبو بَكْرٍ للرَّاعيِّ: ((لِمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِنَا؟)) لأنَّ حديثَ الهجرةِ في زمنِ المكارمةِ، وهذا الحديثُ في زمنِ التَّشاحِّ لما عَلِمَ ◙ أنَّه سيكونُ(6) مِنْ تغيُّرِ الأحوالِ بعدَه.
          قال المُهَلَّبُ: مع أنَّ قوله ◙: (لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ) نَهيٌّ عن التَّسَوُّرِ والاحتلابِ، وحديثُ الهجرةِ لم يَتَسَوَّرِ النَّبيُّ صلعم وَلَا أَبُو بَكْرٍ، وَإِنَّمَا سَأَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّاعِي وَقَالَ(7): هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لَنَا؟ وَالرَّاعِي فِي المَالِ لَهُ عَادَةُ العربِ(8) مِنَ الحلبِ(9)، فلذلك أجازَ النَّبيُّ صلعم شربَ ما حلبَ الرَّاعي، وكذلك عادةُ العربِ(10) في الحلبِ على الماءِ ولابنِ السَّبِيلِ مباحةٌ(11) له، وكلُّ مسترعًى له مثل ذلك في الَّذي استُرعِيَ، كالمرأةِ في بيتِ زوجِها تُعطي اللُّقمةَ مِنْ مالِه والتَّمراتِ والكفَّ(12)، فقال(13) ◙: ((إنِّها أَحَدُ المُتَصَدِّقِينَ)).
          وقال أَشْهَبُ: خرجنَا مرابطينَ إلى الإسكندريَّةِ فمررنا بجنانِ اللَّيثِ بنِ سَعْدٍ، فأكلنا مِنَ التَّمرِ، فلمَّا رجعتُ دعتنِي نفسِي أن أستحلَّ ذلك(14) مِنَ اللَّيثِ(15)، فدخلتُ إليه، فأخبرتُه بذلك، فقال لي: يا ابنَ أخي، لقد نسكتَ نسكًا أعجميًّا، أما سمعتَ اللهَ يقولُ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}[النور:61]فلا بأسَ أن يأكلَ الرَّجُلُ مِنْ مالِ أخيه الشَّيءَ التَّافِهَ ليسرَّه بذلك، وروى ابنُ وَهْبٍ عن مالكٍ في الرَّجُلِ يدخلُ الحائطَ فيجدَ الثَّمرَ ساقطًا، قال: لا تأكلْ(16) منه إلَّا أن يعلم(17) أنَّ صاحبَ الحائطِ(18) طيِّبُ النَّفسِ به، أو يكونَ محتاجًا إلى ذلك فأرجو ألَّا يكونَ به بأسٌ.


[1] في المطبوع: ((لا تحتلب)).
[2] في (ص): ((فينقل)).
[3] في (ص): ((إنَّما)).
[4] في (ز): ((المختزن)).
[5] في (ز): ((الأمر)).
[6] في (ص): ((يكون)).
[7] زاد في (ز): ((له)).
[8] في (ز): ((العرف)).
[9] قوله: ((من الحلب)) ليس في (ص).
[10] في (ز): ((العرف)).
[11] في (ص): ((سماحة)).
[12] في (ز): ((وكفَّ الطَّعام)).
[13] في (ز): ((وقال)).
[14] قوله: ((ذلك)) ليس في (ز).
[15] زاد في (ز): ((ابن سعد)).
[16] في (ز): ((يأكل)).
[17] في المطبوع: ((تعلم))، وغير واضحة في (ص).
[18] في (ز): ((صاحب)).