شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ضالة الغنم

          ░3▒ بَابُ ضَالَّةِ الغَنَمِ
          فيهِ(1): زَيْدُ بنُ خَالِدٍ: (سُئِلَ النَّبيُّ صلعم عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً _يَقُولُ زِيدُ(2): إِنْ لَمْ تُعْرَفِ اسْتَنْفَقَ بِهَا صَاحِبُهَا، وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ. قَالَ يَحْيَى بن سَعِيدٍ: فَهَذَا(3) الَّذي لاَ أَدْرِي أَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صلعم هُوَ، أَمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدِهِ_ ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى في ضَالَّةِ الْغَنَمِ؟ قَالَ النبي صلعم: / خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ _قَالَ يَزِيدُ: وَهِيَ تُعَرَّفُ أَيْضًا_) الحديث. [خ¦2428]
          اختلفَ العلماءُ في ضالَّةِ الغنمِ، فقال ابنُ المُنْذِرِ: روينا عن عائشةَ أنَّها منعتْ مِنْ ضالَّةِ الغنمِ ومِنْ ذَبْحِهَا، وقال اللَّيثُ: لا أحبُّ أن تُعَرَّفَ ضالَّةُ الغنمِ إلَّا أن يحرزَها لصاحبِها، وقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ والشَّافعيُّ: إن أكلَها فعليه الضَّمَانُ إذا جاء صاحبُها، وهو قول عبدِ العزيزِ بنِ أبي سَلَمَةَ وسُحْنُونٍ.
          وقَالَ مَالِكٌ: ومَنْ(4) وجدَ شاةً في أرض فلاةٍ وخاف عليها فهو مُخَيَّرٌ في تركها أو أكلها، ولا ضمانَ عليه، والحجةُ لمالكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم أَذِنَ في أكلِ الشَّاة، وأقامَ الَّذي وجدَها مقامَ ربِّها وقال: (لَكَ أَوْ لأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ) فإذا أكلَها بإذن النَّبِيِّ صلعم لم يَجُزْ أن يغرمَ في حالٍ ثانٍ(5) إلَّا بحجَّةٍ مِنْ كتابٍ أو سُنَّةٍ أو إجماعٍ.
          قالوا: وهذا أصلٌ في كلِّ ما يُوجَدُ مِنَ الطَّعامِ الَّذي لا يبقى ويُسرع إليه الفسادُ، فلمَنْ وجده أكله إذا لم يمكنه تعريفه ولا يضمنه لأنَّه في معنى الشَّاةِ، والشَّاةُ في حكم المباحِ الَّذي لا قيمةَ له، ألا ترى أَنَّ النَّبِيَّ صلعم وجد تمرةً فقال: ((لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا)) فإنَّما نبَّه أنّه يجوز أكلُها مِنْ ملكِ الغير لو لم تكن مِنَ الصَّدقةِ لأنَّها في معنى التَّافِهِ، فكذلك الشَّاةُ في الفلاةِ لا قيمةَ لها.
          واحتجَّ الطَّحَاوِيُّ للكوفيِّين فقالَ: ليس قوله ◙: (هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ) على معنى التَّمليك، كما أنَّه إذا(6) قال: أو للذِّئبِ لم يُرِدْ به التَّمليكَ(7) لأنَّ الذِّئبَ لا يملكُ وإنَّما يأكلُها على ملكِ صاحبِها، فينزل على أجر مصيبها، فكذلك الواجد إن أكلَها، أكلَها على ملك صاحبها فإن جاء ضَمِنَهَا له.
          قالوا: وقد روى ابنُ وَهْبٍ عن عَمْروِ بنِ الحارث وهِشَامِ بنِ سَعْدٍ(8) عن عَمْروِ بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جدِّه: ((أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبيَّ صلعم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ(9) كَيْفَ تَرَى في ضَالَّةِ الغَنَمِ؟ قَالَ(10): طَعَامٌ مأكولٌ لَكَ أَوْ لِأَخِيْكَ أَوْ للذِّئبِ، فَاحبِسْ عَلَى أَخِيْكَ ضَالَّتَهُ))، فهذا دليلٌ(11) أنَّ الشَّاةَ على ملكِ صاحبِها.
          وأجمع العلماء أنَّ صاحبها لو جاء قبل أن يأكلها الواجدُ لها أخذَها منه، وكذلك لو ذبحها أخذَها منه مذبوحةً(12)، وكذلك لو أكل بعضها أُخِذَ ما وُجِدَ منها، فدلَّ على أنَّها(13) على ملكِ صاحبها في الفلوات وغيرها، ولا يزولُ ملكُه عنها إلَّا بإجماعٍ، ولا فرقَ بين قوله في الشَّاة: (هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ) وبين قوله في اللُّقَطَة: ((فَشَأْنَكَ بِهَا)) بل هذا أشبه بالتَّمليك لأنَّه لم يشرك معه في لفظ التَّمليك ذئبًا ولا غيره.


[1] في (ز): ((وفيه)).
[2] في (ز): ((يزيد)).
[3] في (ص): ((قال يحيى: هذا)).
[4] في (ز): ((من)).
[5] في (ص): ((ثاني)).
[6] صورتها في (ز): ((أو)).
[7] قوله: ((لم يرد به التَّمليك)) ليس في (ص).
[8] في المطبوع: ((سعيد)).
[9] قوله: ((يا رسول الله)) ليس في (ص).
[10] في (ز): ((فقال)).
[11] زاد في (ز): ((على)).
[12] في (ز): ((وأجمع العلماء أنَّ صاحبها لو جاء قبل أن يأخذها منه مذبوحةً))، والمثبت من المطبوع.
[13] في (ز): ((فدلَّ أنَّها)).