شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: هل يأخذ اللقطة ولا يدعها تضيع حتى لا يأخذها

          ░10▒ بَابٌ هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلَا يَدَعُهَا حَتَّى تَضِيعُ ويَأْخُذَهَا(1) مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ
          فيهِ سُوَيْدُ بنُ غَفَلَةَ: (كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ بنِ رَبِيعَةَ، وَزَيْدِ بنِ صُوحَانَ في غَزَاةٍ(2)، فَوَجَدْتُ سَوْطًا، فَقَال(3): أَلْقِهِ، فَقُلْتُ: لَا، وَلَكِنْ إِنْ وَجَدْتُ صَاحِبَهُ، وَإِلَّا اسْتَمْتَعْتُ بِهِ(4)، فَلَمَّا رَجَعْنَا(5) حَجَجْنَا، فَمَرَرْتُ بِالمَدِينَةِ، فَسَأَلْتُ أُبيَّ بنَ كَعْبٍ، فَقَالَ: وَجَدْتُ صُرَّةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلعم فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ، فَأَتَيْتُ بِهَا النَّبيَّ صلعم، فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا، ثُمَّ أَتَيْتُ، فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا(6)، ثُمَّ أَتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا ووِكَاءَهَا(7) وَوِعَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا، وَإِلَّا اسْتَمْتِعْ بِهَا). [خ¦2437]
          اختلفَ العلماءُ في اللُّقَطَةِ هل أخذها أفضل أم تركها؟ فكرهت طائفةٌ أخذها، ورأوا تركَها أفضلُ، رُوِيَ ذلك عن ابنِ عُمَرَ وابنِ عَبَّاسٍ، وهو قولُ عَطَاءٍ، وروى ابنُ القَاسِمِ عن مالكٍ أنَّه كَرِهَ أخذَ اللُّقَطَةِ والآبق، فإن أخذ ذلك وضاعت اللُّقَطَةُ وأبق الآبقُ مِنْ غيرِ تضييعِه لم يضمن، وكَرِهَ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ أخذَ اللُّقَطَةِ أيضًا.
          وقالت طائفةٌ: أخذُها وتعريفُها أفضلُ مِنْ تركِها. هذا قولُ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وقَالَ أَبُو حنيفةَ وأصحابُه: تركُها سببٌ لضياعِها. وبه قالَ الشَّافعيُّ، ورُوِيَ عن مالكٍ: إنْ كانَ شيءٌ له بالٌ فأخذُه وتعريفُه أحبُّ إليَّ(8). وحجَّةُ القولِ الأوَّلِ حديثُ جَرِيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قالَ: ((لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إِلَّا ضَالٌّ)) وحديث الجارودِ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قال(9): ((ضَالَّةُ المُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ)).
          وحجَّةُ مَنْ رأى أنَّ تعريفَها أفضلُ قولُ النَّبِيِّ صلعم للَّذي سأله عن اللُّقَطَةِ: (اعْرَفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا) فأمره ◙ بتعريفها ولم يقلْ له: لم أخذتها؟ وذلك دليلٌ على أنَّ الفضلَ في أخذِها وتعريفِها لأنَّ تركَها عونٌ / على [ضياعِها ومِنَ الحقِّ النَّصيحةُ للمسلمِ، وأن يحوطَه في مالِهِ بما أمكنَه، وتأوَّلُوا(10) قوله ◙: ((لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إِلَّا ضَالٌّ)) و((ضَالَّةُ المُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ)) أنَّ المرادَ بذلك مَنْ لم يعرفْها وأراد الانتفاعَ بها حتَّى لا تتضادَّ](11) الأخبار(12).
          قال الطَّحَاوِيُّ: ويدلُّ على ذلك ما روى يحيى بنُ أَيُّوبٍ قالَ: حدَّثني عَمْرُو بنُ الحارثِ، أنَّ بَكْرَ بنَ سَوَادَةَ، حدَّثه عن أبي سالمٍ الجَيْشَانيِّ عن زَيْدِ بنِ خالدٍ الجُهَنِيِّ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: ((مَنْ أَوى الضَّالَّةَ فَهُو ضَالٌّ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا)).
          وروى شُعْبَةُ عَنْ خالدٍ الحَذَّاءِ عن يَزِيْدَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ عن أبي مسلمٍ عن الجَارُودِ قالَ: ((أَتَيْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم وَنَحْنُ عَلَى إِبِلٍ عِجَافٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّا نَمُرُّ بالجُرُفِ فَنَجِدُ إِبِلًا فَنَرْكَبُهَا؟ فَقَالَ: ضَالَّةُ المُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ)) فكان سؤالُهم عن أخذِها إنَّما هو لأنْ يركبُوها، فأجابَهم ◙ بأن قالَ: ((ضَالَّةُ المُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ))، أي ضالةُ المسلمِ حكمُها أن تحفظ على صاحبِها حتَّى تُؤدَّى إليه، لا لأن يُنْتَفَعَ بها لركوبٍ ولا غيرِه.


[1] في (ز): ((ولا يدعها تضيع حتَّى يأخذها)).
[2] زاد في (ز): ((باردة)).
[3] في (ز): ((فقالا لي)).
[4] قوله: ((به)) ليس في (ز).
[5] صورتها في (ز): ((رجعناه)).
[6] قوله: ((فعرَّفتها)) ليس في (ص)، قوله: ((فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا، ثُمَّ أَتَيْتُ، فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا، فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا)) ليس في (ز)، وهو مثبت من المطبوع.
[7] في (ز): ((اعرف عدتها ووكاءها)).
[8] في (ز): ((إليه)).
[9] قوله: ((لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إِلَّا ضَالٌّ)) وحديث الجارود أنَّ النَّبيَّ صلعم قال ليس في (ص).
[10] في المطبوع: ((وتأويل)).
[11] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).
[12] في (ز): ((الأحاديث)).