شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه لأنها وديعة عنده

          ░9▒ بَابُ إِذَا جَاءَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ رَدَّهَا عَلَيْهِ لأَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ(1)
          فيهِ زَيْدٌ: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبيَّ صلعم عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وِكَاءَهَا(2)، ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا(3)، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا(4) فَأَدِّهَا إِلَيْهِ) الحديث. [خ¦2436]
          أجمعَ أئمَّةُ الفتوى على أنَّ صاحبَ اللُّقَطَةِ إذا جاءَ بعد الحولِ أنَّ الَّذي وجدَها يلزمُه ردَّها إليه لقولِه ◙: (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ) وقد ذكرنا قبل هذا أنَّ بعضَ مَنْ نُسِبَ(5) إلى العِلمِ وحظُّهُ منه(6) أن يُوْسِمَ بمخالفةِ الأئمَّةِ خالفَ إجماعَهم في اتباعِ هذا الحديثِ، وخالفَ قولَه ◙: / [(فَأَدِّهَا إِلَيْهِ) وقالَ: لا يؤدَّى إليه شيءٌ بعد الحولِ استدلالًا منه بقولِه ◙: ((فَشَأْنَكَ بِهَا))، قالَ: لأنَّ هذا إطلاقٌ منه ◙ على ملكِها فلا يلزمُه تأديتَها، وهذا قولٌ يؤدِّي إلى تناقضِ السُّنن، وقد جلَّ النَّبيُّ(7) صلعم عن أن تتناقضَ سُنَّتَه(8).
          وقوله ◙: (فَأَدِّهَا إِلَيْهِ) فيه بيانٌ وتفسيرٌ لقولِهِ ◙: ((فَشَأْنَكَ بِهَا)) ولو كان المرادُ بقوله: ((فَشَأْنَكَ بِهَا)) إطلاقُ يدِه عليها، وسقوطُ ضمانِها عنه لبطلتْ فائدةُ قولِهِ ◙]
(9): (فَأَدِّهَا إِلَيْهِ) واستعمالُ الحديثينِ(10) لفائدتينِ أولى مِنْ إسقاطِ أحدِهما، هذه طريقةُ العلماءِ في التَّأليفِ بين الآثارِ، والقضاءِ بالمجملِ على المُفَسَّرِ.
          واختلفوا هل للواجدِ بعد الحولِ أن يأكلَها أو يتصدَّقَ بها فرُوِيَ عن عليٍّ وابنِ عبَّاسٍ أنَّه يتصدَّقَ بها ولا يأكلها، وهو قولُ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ والحَسَنِ والشَّعْبِيِّ، وإليه ذهب الثَّوْرِيُّ، وقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يأكلها الغَنِيُّ، إلَّا أن يكونَ فقيرًا فيأكلَها، ثمَّ إنْ جاء صاحبُها ضَمِنَهَا، وروى ابنُ القَاسِمِ عن مالكٍ أنَّه استحبَّ له أن يتصدَّقَ بها، وروى عنه ابنُ وَهْبٍ أنَّه إنْ شاءَ أمسكها، وإن شاءَ استنفقها، وإن شاءَ تصدَّقَ بها، فإن جاء صاحبُها أدَّاها إليه، ورُوِيَ مثلُ هذا عن عُمَرَ وابنِ مَسْعُودٍ وابنِ عُمَرَ وعائشةَ، وهو قولُ عَطَاءٍ، وبه قال الشَّافعيُّ وأحمدُ وإِسْحَاقُ.
          وقوله ◙ _بعد الحولِ_: (ثمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا) حجَّةٌ لِمَنْ قال: يصنعُ ما شاءَ مِنْ صدقةٍ بها، أو أكلٍ، أو غيرِه لعمومِ قوله ◙: (اسْتَنْفِقْ بِهَا) ولم يخصَّ وجهًا يستنفقها فيه مِنْ غيرِه، وأيضًا فإنَّه ◙ لمَّا قال: (اسْتَنْفِقْ بِهَا) لم(11) يفرَّق بين الغنيِّ والفقيرِ دلَّ على قولِ أبي حنيفةَ.
          وإنَّما لم يذكرِ البخاريُّ في هذا البابِ روايةَ سُلَيْمَانَ بنِ بلالٍ عن يحيى بنِ سَعِيْدٍ أنَّه قال: كانت(12) وديعةً(13). وذكرها في بابِ ضالَّةِ الغنمِ [خ¦2428] لأنَّه قد بيَّن سُلَيْمَانُ في الحديثِ أنَّ(14) يحيى بنَ سَعِيْدٍ قَالَ: عن يَزِيْدَ قالَ(15): لا أدري أفي حديثِ النَّبِيِّ صلعم هو أم مِنْ عنده. فاستراب البخاريُّ بهذا الشكِّ، وترجمَ بالمعنى ولم يذكره في الحديثِ لأنَّه استغنى بقولِهِ: (فَأَدِّهَا إِلَيْهِ) عن قوله: ((وَكَانَتْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ)).


[1] قوله: ((عنده)) ليس في (ز).
[2] في (ز): ((وكاءها وعفاصها)).
[3] قوله: ((بها)) ليس في (ز).
[4] في (ز): ((صاحبها)).
[5] في (ز): ((ينتسب)).
[6] في المطبوع: ((من)).
[7] في المطبوع: ((الرَّسول)).
[8] في المطبوع: ((أن يتناقض)).
[9] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).
[10] في (ز): ((الحديث)).
[11] في (ز): ((ولم)).
[12] في (ز): ((وكانت)).
[13] زاد في (ز): ((عنده)).
[14] قوله: ((أنَّ)) ليس في (ص).
[15] قوله: ((قال)) ليس في (ز).