عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب حجة الصبيان
  
              

          ░25▒ (ص) باب حجَّة الصِّبْيَانِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في ذكر حجَّة الصبيان في الأحاديث التي يذكرها في هذا الباب، وقال بعضهم: قوله: باب حجَّة الصبيان؛ أي: مشروعيَّته.
          قُلْت: كيف يقولُ هكذا على الإطلاقِ وليس في أحاديث الباب شيءٌ يدلُّ صريحًا على مشروعيَّة حجِّهم ولا عدم مشروعيَّته؟ فلذلك أطلق البُخَاريُّ كلامه في الترجمة وما حكم بشيءٍ.
          فَإِنْ قُلْتَ: روى مسلمٌ مِن حديث كُرَيبٍ مولى ابن عَبَّاس، عن ابن عَبَّاس، عنِ النَّبِيَّ صلعم : لقيَ ركبًا بالرَّوحاء، فقال: «مَن القوم؟» قالوا: المسلمون، فقالوا: مَن أنت؟ قال: «رسول الله» فرفعت إليه امرأة صبيًّا فقالت: ألهذا حجٌّ؟ قال: «نعم، ولك أجرٌ».
          قُلْت: الظاهر أنَّهُ ليس على شرطه، فلذلك لم يخرِّجه أو ما وقف عليه، وقد احتجَّ بظاهر هذا الحديث داود وأصحابه مِنَ الظاهريَّة وطائفة مِن أهل الحديث على أنَّ الصبيَّ إذا حجَّ قبل بلوغه كفى ذلك عن حجَّة الإسلام، وليس عليه أن يحجَّ حجَّة أخرى حجَّة الإسلام، وقال الحسن البِصْريُّ وعطاء بن أبي رَبَاح ومجاهدٌ والنخعيُّ والثَّوْريُّ وأبو حنيفة وأبو يوسف ومُحَمَّد ومالكٌ والشَّافِعِيُّ وأحمد وآخرون مِن علماء الأمصار: لا يجزئ الصبيُّ ما حجَّه عن حجَّة الإسلام، وعليه بعد بلوغه حجَّة أخرى.
          وفي «أحكام ابن بزيزة»: أَمَّا الصبيُّ فقد اختلف العلماء هل ينعقد حجُّه أم لا؟ والقائلون بأنَّه منعقِدٌ اختلفوا هل يجزئه عن حجَّة الفريضة إذا بلغ وعقل أم لا؟ فذهب مالكٌ والشَّافِعِيُّ وداود إلى أنَّ حجَّه ينعقد، وقال أبو حنيفة: لا ينعقِد، واختلف هؤلاء القائلون بانعقاده، فقال داود وغيره: يجزئه عن حجَّة الفريضة بعد البلوغ، وقال مالكٌ والشَّافِعِيُّ: لا يجزيه، وقال الطَّحَاويُّ: وكان مِن الحِجَّة على هؤلاء أنَّهُ ليس في الحديث إلَّا أنَّ رسول الله صلعم أخبر أنَّ للصبيِّ حجًّا، وليس فيه ما يدلُّ على أنَّهُ إذا حجَّ يجزئ عن حجَّة الإسلام.
          فَإِنْ قُلْتَ: ما الدليلُ على ذلك؟
          قُلْت: قولُه صلعم : «رُفِعَ القلم عن ثلاثة؛ عن الصغير حَتَّى يكبر...» فإذا ثبت أنَّ القلم مرفوعٌ عنه؛ ثبت أنَّ الحجَّ ليس بمكتوبٍ عليه؛ كما أنَّهُ إذا صلَّى فرضًا ثُمَّ بلغ بعد ذلك فَإِنَّهُ لا يعيدها، ثُمَّ إنَّ عند أبي حنيفة إذا أفسد الصبيُّ حجَّه لا قضاء عليه، ولا فدية عليه إذا اصطاد صيدًا، وقال مالكٌ: يُحَجُّ بالصبيِّ، ويُرمى عنه، ويجنَّب ما يجتنبه الكبير مِنَ الطيب وغيره، فإن قَوِيَ على الطواف والسعي ورميِ الجمار، وإلَّا طيف به محمولًا، وما أصابه مِن صيدٍ أو لباسٍ أو طيب؛ فُدِي عنه، وقال: الصغير الذي لا يتكلَّم إذا جُرِّد ينوى بتجريده الإحرام، وقال ابن القاسم: يغنيه تجريدُه عنِ التلبية عنه، فإن كان يتكلَّم لبَّى عن نفسه.