نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى {أن يصالحا بينهما صلحًا والصلح خير}

          ░4▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ ╡: {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]) والآية في سورة النِّساء، وأول الآية قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء:128] توقَّعتْ منه ذلك لما لاح لها من مخائله وإماراته، والنُّشوز أصلُه الارتفاع، فإذا أساءَ عشرتها ومنعها نفسَه والنَّفقة فهو نشوزٌ؛ أي: ارتفاع عنها. وقال ابنُ فارس: نشزَ بعلها إذا جفاها وضربها، وقال الزَّمخشري: النُّشوز أن يتجافى عنها بأن يمنعَها نفسه ونفقته والمودَّة والرَّحمة التي بين الرَّجل والمرأة، وأن يؤذيَها بسبٍّ أو ضربٍ.
          والإعراض: أن يعرضَ عنها بأن يقلَّ محادثتها ومؤانستَها؛ وذلك لبعض الأسباب من طعن في سنٍّ أو دمامة أو شيءٍ في خَلق أو خُلق أو ملال أو طموح عين إلى أخرى أو غير ذلك.
          {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} فلا بأس بهما أن يتصالحا أبدلت التَّاء صادًا، وأدغمت الصَّاد في الصاد، وقرأ الكوفيُّون: {أن يُصْلِحَا} من أصلح بين المتنازعين، وعلى هذا جاز أن ينتصب صلحًا على أنَّه مفعول به، وبينهما ظرف أو حال منه، والمعنى والله أعلم: أن يوقعا بينهما صلحًا أو حال كونه بينهما، وقدِّم لتنكير ذي الحال، أو على المصدر، كما في القراءة الأولى والمفعول بينهما، أو هو محذوف، وقرئ: ({يَصَّالحا} [النساء:128]) بمعنى: يتصالحا، وأصله: يصطلحا، ونحو اصبر في اصطبر، و{صُلْحًا} نصب على المصدر أيضًا.
          والصُّلح في معنى مصدر كلُّ واحدٍ من الأفعال الثَّلاثة، ومعنى الصُّلح أن يتصالحا على أن تطيب له نفسًا عن القسمة أو عن بعضها، كما روى أبو داود الطَّيالسي: حدَّثنا سليمان بن معاذ، عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عبَّاس ☻ قال: خشيت سَوْدة أن يطلِّقها رسول الله صلعم فقالت: يا رسول الله / لا تطلقني، واجعل يومي لعائشة ففعل، ونزلت هذه الآية: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} [النساء:128] الآية، وقيل: نزلت في رافع بن خديج ☺ طلَّق زوجته واحدة، وتزوَّج شابة، فلمَّا قارب انقضاء العدَّة قالت: أصالحك على بعض الأيام، ثمَّ لم تسمحْ فطلَّقها أخرى، ثمَّ سألته ذلك فراجعها، فنزلت هذه الآية.
          وقد روي: أنَّ امرأة أراد زوجها أن يطلِّقها لرغبته عنها وكان لها منه ولدٌ، فقالت: لا تطلِّقني ودعني أقوم على ولدِي وتقسم لي في كلِّ شهرين، فقال: إن كان هذا يصلح فهو أحبُّ إليَّ، فأقرها، أو تهبَ له بعض المهر أو كله أو النَّفقة، أو تهب له شيئًا تستميله به، فإن لم تفعل فليس له إلَّا أن يمسكها بإحْسان أو يسرِّحها {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} من الفرقة، أو من النُّشوز والإعراض وسوء العشرة، أو هو خيرٌ من الخصومة في كلِّ شيءٍ، أو هو خير من الخيور، كما أنَّ الخصومة شرٌّ من الشُّرور، وهذه الجملة اعتراض وكذلك قوله: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} ولذلك اغتفر عدم تجانسهما، والأول: للتَّرغيب في المصالحة، والثَّاني: لتمهيد العذر في المماكسة. ومعنى إحضار الأنفس الشُّح: أنَّ الشُّح جعل حاضرًا لها لا يغيب عنها أبدًا ولا ينفك عنها؛ يعني: أنَّها مطبوعةٌ عليه، والغرض أنَّ المرأة لا تكاد تسمحُ نفسها بقسمتها وبغير قسمتها، والرَّجل لا يكاد نفسه تسمح بأن يقسم لها، وأن يمسكها إذا رغب عنها وأحبَّ غيرها، هكذا فسَّر الزَّمخشري.
          وقال البيضاوي: ومعنى إحضار الأنفس الشُّح جعلها حاضرةً له مطبوعة عليه، فلا تكاد المرأة تسمح بالإعراض عنها والتَّقصير في حقِّها، ولا الرَّجل يسمحُ بأن يمسكها ويقوم بحقِّها على ما ينبغِي إذا كرهها أو أحبَّ غيرها، فتأمل في الفرق بين التَّفسيرين.
          {وَإِنْ تُحْسِنُوا} بالإقامة على نسائكم، وإن كرهتُموهنَّ وأحببتُم غيرهنَّ وتصبروا على ذلك مراعاةً لحق الصُّحبة {وَتَتَّقُوا} النُّشوز والإعراض وما يؤدِّي / إلى الأذى والخصومة {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الإحسان والتَّقوى والخصومة {خَبِيرًا} [النساء:128] عليمًا به، وبالغرض فيه فمجازيكم عليه، أقام كونه عالمًا بأعمالهم مقام إثابته إيَّاهم عليها، الذي هو في الحقيقة جواب الشَّرط؛ إقامةً للسَّبب مقام المسبب.
          روي أنَّ عمران بن حِطَّان الخارجي كان من أَدَمِّ بني آدم، وامرأتُه من أجملهم، فأجالت في وجهه نظرَها يومًا، ثمَّ تابعَت الحمد لله؛ أي: كرَّرته، فقال: ما لك؟ قالت: حمدت على أنِّي وإياك من أهل الجنة، قال: كيف؟ قالت: لأنك رُزِقتَ مثلي فشكرتَ، ورُزِقتُ مثلك فصبرتُ، وقد وعد الله الجنة عباده الشَّاكرين والصَّابرين.