نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الربط والحبس في الحرم

          ░8▒ (بابُ) مشروعيَّة (الرَّبْطِ وَالْحَبْسِ) أي: ربط الغريم وحبسه (فِي الْحَرَمِ) كأنَّه أشار بذلك إلى ردِّ ما نُقِل عن طاوس حيث كره السَّجن بمكَّة، فروى ابن أبي شيبة من طريق قيس بن سعد عنه أنَّه كان يكره السَّجن بمكَّة، ويقول: لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة، فأراد البخاري معارضة قول طاوس بأثر عمر ☺ وابن الزُّبير وصفوان ونافع وهم من الصَّحابة، وقوَّى ذلك بقصَّة ثُمامة، وقد ربط في مسجد المدينة، وهو أيضاً حرم.
          قال العيني: قول طاوس نظرٌ مليحٌ، ولكن العمل على خلافه.
          (وَاشْتَرَى نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ) الخزاعيُّ هو من فضلاء الصَّحابة، استعمله عمر ☺ على مكَّة، وأمره بَشْري دار بمكَّة للسَّجن، وكان من جملة عمَّال عمر ☺ (دَاراً لِلسَّجْنِ) بفتح السين، مصدر من سَجَن يَسْجُن سَجْناً بالفتح، والسِّجْن _بالكسر_ واحد السُّجون (بِمَكَّةَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ) الجمحي المكِّي الصَّحابي (عَلَى أَنَّ عُمَرَ ☺ إِنْ رَضِيَ فَالْبَيْعُ بَيْعُهُ) أي: إن رضي عمر ☺ بالابتياع فهي لعمر ☺ (وَإِنْ لَمْ يَرْضَ عُمَرُ) ☺ بالابتياع (فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُمِائَةٍ) أي: اشترى على هذا الشَّرط، واعتُرِض عليه بأنَّ البيع بمثل هذا الشَّرط فاسدٌ.
          وأُجيب: بأنَّه لم يكن داخلاً في نفس العقدِ، بل هو وعد؛ يعني: أنَّه أراد الاشتراء ولم يشتر بعد، فقال: إن رضيَ عمر ☺ بالاشتراء اشترى منك، وإن لم يرضَ فأعطيك أربعمائة في مقابلة الانتفاع بتلك الدَّار إلى أن يعودَ الجواب من عمر ☺، وليس هذه الأربعمائة الثمن، أو كان ذلك بيعاً بشرط الخيار لعمر ☺، أو أنَّه كان وكيلاً لعمر ☺، وللوكيل أن يأخذَ / لنفسه إذا ردَّه الموكَّل بالعيب ونحوه بالثَّمن المذكور.
          وقال المهلَّب: اشتراها نافع من صفوان للسَّجن، وشرط عليه إن رضيَ عمر ☺ بالابتياع فهي لعمر، وإن لم يرضَ ذلك بالثَّمن المذكور فهي لنافع بأربعمائة، وهذا بيعٌ جائز، انتهى فافهم.
          وقال ابن المُنيِّر: إنَّ العهدة في البيع على المشتري، وإن ذكر أنَّه يشتري لغيره؛ لأنَّه المباشر للعقد انتهى. وكأنَّه وقف مع ظاهر اللَّفظ المعلَّق ولم يرَ سياقه تامًّا، فظنَّ أنَّ الأربعمائة هي الثَّمن الذي اشترى به نافع، وليس كذلك فإنَّ الثَّمن كان أربعة آلاف، كما وردَ في رواية من وصلوه ممَّن يذكر بعدُ، وأمَّا كون هذه الأربعة آلاف دراهم أو دنانير فكلٌّ منهما محتمل إلَّا أنَّ الظَّاهر أنَّها دراهم إذ كانت من بيت مال المسلمين.
          وبعيدٌ أنَّ عمر ☺ يشتري داراً للسَّجن بأربعة آلاف دينار مع شدَّة اهتمامه ببيت المال، فأمَّا تلك الأربعمائة فالظَّاهر أنَّه جعلها في مقابلة انتفاعه بتلك الدَّار إلى أن يعودَ الجواب من عمر ☺ كما مرَّ، والله أعلم.
          وهذا التَّعليق وصله عبد الرَّزَّاق وابن أبي شيبة والبيهقي من طرق عن عَمرو بن دينار، عن عبد الرَّحمن بن فروخ به، وليس لنافع بن عبد الحارث ولا لصفوان بن أميَّة في البخاري سوى هذا الموضع.
          (وَسَجَنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ) هو: عبد الله بن الزُّبير (بِمَكَّةَ) ومفعول «سجن» محذوف؛ أي: سجن عبد الله بن الزُّبير المديون ونحوه بمكَّة أيَّام ولايته عليها، وحذف للعلم به.
          وهذا التَّعليق وصله ابنُ سعد من طريق ضعيف عن محمَّد بن عمر: حدَّثنا ربيعة بن عثمان وغيره، عن سعد بن محمَّد بن جبير، والحسين بن الحسن بن عطيَّة العوفي، عن أبيه، عن جدِّه، وكذا وصله خليفة بن خيَّاط في «تاريخه»، وأبو الفرج الأصبهاني في «الأغاني» من طرق.