نجاح القاري لصحيح البخاري

باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام

          ░2▒ (بابُ) حكم (مَنْ رَدَّ أَمْرَ السَّفِيهِ) وهو ضدُّ الرَّشيد، وهو الذي يصلح دينه ودنياه، والسَّفيه هو الَّذي يعمل بخلاف موجب الشَّرع، ويتَّبع هواه ويتصرَّف لا لغرض، أو لغرض لا يعدُّه العقلاء من أهل الدِّيانة غرضاً، مثل دفع المال إلى المغنِّي واللَّعَّاب وشَرْيُ الحمام الطيَّارة بثمنٍ غال، وغير ذلك فيفسد دينه ودُنياه.
          (وَالضَّعِيفِ الْعَقْلِ) هو أعمُّ من السَّفيه (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَرَ عَلَيْهِ الإِمَامُ) يعني: حجر الإمام عليه أو لم يحجر، فكلمة إن وصليَّة، فبعضهم يرد تصرُّف السَّفيه مطلقاً، وهو قولُ ابن القاسم، وعند أَصْبغ لا يُرَدُّ عليه إلَّا إذا ظهر سفهه.
          وقال غيرهما من المالكيَّة: لا يردُّ مطلقاً إلَّا ما تصرف بعد الحجر، وبه قالت الشَّافعية. وعند أبي حنيفة: لا يُحْجَرُ بسبب سَفَهٍ، ولا يُرَدُّ تصرُّفه مطلقاً. وعند أبي يوسف / ومحمَّد: يحجر عليه في تصرُّفات لا تصحُّ مع الهزل كالبيعِ والهبة والإجارة والصَّدقة، ولا يُحْجَرُ في غيرها كالطَّلاق والعتاق ونحوهما.
          وقال الشَّافعي: يُحْجَرُ عليه في الكلِّ، ولا يُحْجَرُ عليه أيضاً عند أبي حنيفة بسبب غفلة، وهو عاقل غير مُفسد ولا يقصده، ولكنَّه لا يَهتدي إلى التصرُّفات الرَّابحة، وعندهما يُحْجَرُ عليه كالسَّفيه.
          واحتجَّ ابن القاسم بقصَّة المُدبَّر حيث ردَّ النَّبي صلعم بيعه قبل الحجر عليه. واحتجَّ غيره بقصَّة الذي كان يُخدَع في البيوع حيث لم يحجر عليه، ولم يفسخْ ما تقدَّم من بيوعه.
          وأشارَ البخاري بما ذكر من أحاديث الباب إلى التَّفصيل بين مَنْ ظهرتْ منه الإضاعة فيُرَدُّ تصرُّفُه كما إذا كان في الشَّيء الكثير أو المُستغرِق، وعليه يُحمَل قصَّةُ المدبَّر، وبين ما إذا كان في الشَّيء اليسير، أو جعل له شرطاً يأمن به من إفساد ماله فلا يُرَدُّ، وعليه تُحمَل قصَّة الذي كان يُخدَع، والله تعالى أعلم.
          (وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ ☺: أَنَّ النَّبِيِّ صلعم رَدَّ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ) أي: ردٌّ على المتصدِّق المذكور في حديث جابر ☺ صدقته مع احتياجهِ إليها (قَبْلَ النَّهْيِ) ظرف للمتصدِّق (ثُمَّ نَهَاهُ) وحجره عن مثله. قال عبد الحقِّ: مراد البخاري بذلك قصَّة الذي دبَّر عبدَه فباعه النَّبي صلعم ، وهو ما ذكره البُخاري في باب «بيع المزايدة»، من «كتاب البيوع» [خ¦2141] موصولاً عن جابر ☺: ((أنَّ رجلاً أعتقَ غلاماً له عن دبر فاحتاج)) الحديث.
          وقد رواه النَّسائي أيضاً موصولاً ولفظه: ((أعتقَ رجلٌ من بني عُذْرة عبداً له عن دُبُر، فبلغ ذلك النَّبيَّ صلعم فقال له: ألكَ مال غيره؟ قال: لا، قال رسول الله صلعم : مَنْ يشتريه منِّي؟)) فاشتراه نُعَيم بن عبد الله العَدَوي بثمانمائة درهم، فجاء بها رسولُ الله صلعم فدفعها إليه، ثمَّ قال: ((ابدأْ بنفسك فتصدَّق عليها، فإن فضلَ شيءٌ فلأهلك، فإن فضلَ عن أهلك شيءٌ فلذي قرابتك، فإن فضل من ذي قرابتك شيء فكذا وهكذا تقول بين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك)).
          فإن قيل: الذي ذكره البخاري في الباب المذكور صحيحٌ، فكيف ذكر هنا بصيغة التَّمريض؟.
          فالجواب: أنَّ القدر الذي يحتاج إليه في هذه التَّرجمة ليس على شرطه، وهو من / طريق أبي الزُّبير عن جابر ☺ أنَّه قال: أعتق رجل من بني عُذْرة عبداً له. الحديث. وقد رواه النَّسائي ونقلناهُ بلفظه، وفيه: ((ثمَّ قال: ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها، فإن فضلَ شيءٌ فلأهلك))، الحديث.
          وهذه الزِّيادة تفرَّد بها أبو الزُّبير، عن جابر ☺ وليس هو من شرطِ البخاري، ومن عادة البخاري غالباً أنَّه لا يجزم إلَّا بما كان على شرطهِ. هذا، وكذا أشار إلى ذلك ابن بطَّال ومَنْ بعده، حتَّى جعله مغلطاي حجَّةً في الردِّ على ابن الصَّلاح حيث قرَّر أنَّ الذي يذكره البخاري بغير صيغةِ الجزم لا يكون حاكماً بصحَّته، فقال مغلطاي: قد ذكره بصيغةِ الجزم هنا وهو صحيحٌ عنده.
          وتعقَّبه الشَّيخ في «النُّكت على ابن الصَّلاح»: بأنَّ البخاري لم يُرِد بهذا التَّعليق قصَّة المدبَّر، وإنَّما أراد قصَّة الرجل الذي دخل، والنَّبي صلعم يخطب، فأمرهم فتصدَّقوا عليه فجاء في الثَّانية فتصدَّقوا عليه فتصدَّق أحد بأحدِ ثوبيه، فردَّه عليه النَّبي صلعم ، قال: وهو حديث ضعيفٌ. أخرجه الدَّارقطني وغيره.
          وقال الحافظُ العَسْقَلاني: لكن ليس هذا من حديث جابر ☺، وإنَّما هو من حديث أبي سعيدٍ الخدري ☺ وليس بضعيفٍ، بل هو إمَّا صحيح، أو حسنٌ أخرجه أصحاب السُّنن، وصحَّحه التِّرمذي وابن خُزَيمة وابن حِبَّان وغيرهم، والذي يظهرُ لي أنَّه أراد حديث جابر ☺ في قصَّة الرَّجل الذي جاء ببيضة من ذهبٍ أصابها في معدن، فقال: يا رسول الله! خذها منِّي صدقة فوالله ما لي مال غيرها فأعرضَ عنه، فأعاد فحذفه بها، ثمَّ قال: يأتي أحدكُم لا يملك غيره فيتصدَّق به، ثمَّ يقعدُ بعد ذلك يتكفَّف النَّاس إنَّما الصَّدقة عن ظهرِ غنًى، وهو عند أبي داود وصحَّحه ابن خُزيمة.
          ثمَّ ظهر لي أنَّ البخاري إنَّما أراد قصَّة المدبَّر، كما قال عبدُ الحق، قاله الحافظُ العَسْقَلاني ثم قرَّر وجه عدم جزمه بما مرَّ آنفاً، والله تعالى أعلم.
          ومطابقته للتَّرجمة من حيث إنَّه صلعم إنَّما ردَّ على المتصدِّق المذكور صدقته مع احتياجه إليها لأجل ضعفِ عقله؛ لأنَّه ليس من مقتضى العقل أن يكون الشَّخص محتاجاً فيتصدَّق على غيره، والله أعلم.
          (وَقَالَ مَالِكٌ) الإمام (إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ وَلَهُ عَبْدٌ لاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ فَأَعْتَقَهُ / لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ) هكذا ذكره مالك في «موطآته» أخرجه عنه عبد الله بن وَهْب، واستنبط مالك ذلك عن قصَّة المُدبَّر الذي باعه النَّبي صلعم على صاحبه. واختلف العلماء في السَّفيه قبل الحجر هل تُرَدُّ عقودُه؟ فاختار البخاري ردَّها، واستدلَّ بحديث المدبَّر، وذكر قول مالك في ردِّ عتق المديون قبل الحجر إذا أحاط الدَّين بماله، ويُلزِم مالكٌ ردَّ أفعال السَّفيه والمديون [لأن الحجر في السفيه والمديان] مطَّرد.
          (مَنْ بَاعَ عَلَى الضَّعِيفِ) أي: ضعيف العقل، واللام للعهد، وهو المذكور في التَّرجمة (وَنَحْوِهِ) وهو السَّفيه (فَدَفَعَ ثَمَنَهُ إِلَيْهِ) ويُروَى: <ودفع> بالواو (وَأَمَرَهُ بِالإِصْلاَحِ وَالْقِيَامِ بِشَأْنِهِ) وهذا حاصل ما فعله النَّبي صلعم في بيع المُدبَّر المذكور؛ لأنه لَمـَّا باعه دفعَ ثمنه إليه، ونبَّهه على طريق الرُّشد، وأمره بالإصلاح والقيام بشأنه، وما كان سفهه حينئذٍ في ذلك إلَّا ناشئاً عن الغفلة، وعدم البصيرة بمواقع المصالح، ولهذا سلَّم إليه الثَّمن، ولو كان لأجل سفهه حقيقة لم يكن يسلِّم إليه الثَّمن.
          (فَإِنْ أَفْسَدَ) أي: فإن أفسدَ هذا الضَّعيف (بَعْدُ) مبني على الضم؛ أي: بعد ذلك (مَنَعَهُ) أي: حجر عليه من التصرُّف (لأَنَّ النَّبِيَّ صلعم نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ) وقد مرَّ غير مرَّة.
          (وَقَالَ) صلعم : (لِلَّذِي يُخْدَعُ فِي الْبَيْعِ) ويُروَى: <في البيوع> (إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لاَ خِلاَبَةَ) وقد مرَّ في باب «ما يُكرَه من الخداع في البيع» [خ¦2117]، وسيجيء أيضاً في هذا الباب.
          (وَلَمْ يَأْخُذِ النَّبِيُّ صلعم مَالَهُ) أي: مال الرَّجل الذي باع النَّبي صلعم غلامه، وإنَّما لم يأخذ؛ لأنه لم يظهرْ عنده سفهه حقيقة، إذ لو ظهر لمنعه من أخذ الثَّمن، كما مرَّ، هكذا في رواية الأكثرين، ووقع في رواية أبي ذرٍّ: <بابُ مَنْ باع على الضَّعيف> إلى آخره، ووجهه غير ظاهر.