نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: لا تخيروني على موسى

          2411- (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ) بالقاف والزاي والمهملة المفتوحات، وقد مرَّ في آخر «الصَّلاة» [خ¦870]، قال: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهري (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) أي: ابن عبد الرَّحمن بن عوف ☺ (وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن هُرمز (الأَعْرَجِ) يعني: أنَّ الزُّهري يروي عنهما جميعاً وهما يرويان (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺) ويُروَي عن ابن شهاب والأَعْرج عن أبي سَلَمة، لكن الصَّحيح هو الأوَّل (قَالَ) أي: أنَّه قال: (اسْتَبَّ رَجُلاَنِ) من السبِّ، وهو الشَّتم من سبَّه يسبُّه سبًّا (رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) بدل من قوله: رجلان، قيل: هو أبو بكر الصِّدِّيق ☺، ووقع في «جامع سفيان» عن عَمرو بن دينار أنَّ الرَّجل الذي لطم اليهودي هو: أبو بكر الصِّدِّيق ☺.
          (وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ) ذُكِرَ في «تفسير ابن إسحاق»: أنَّ اليهودي اسمه: فنحاص، وفيه نزل قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] قال ذلك اليهود حين سمعوا قول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [الحديد:11] فلا يخلوا إمَّا أن يقولوه عن اعتقاد لذلك، أو عن استهزاء بالقرآن، وأيًّا ما كان فالكلمة عظيمة لا تصدر إلَّا عن متمرِّدين في كفرهم.
          ورُوِيَ: أنَّ رسول الله صلعم كتب مع أبي بكر ☺ إلى يهود بني قَينُقاع يدعوهم إلى الإسلام، وإلى إقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً، فقال فنحاص بن عازوراء اليهودي: إنَّ الله فقيرٌ حين سألنا القرض، فلطمه أبو بكر ☺ في وجهه، وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك، فشكاهُ إلى رسول الله صلعم وجحدَ ما قال فنزلت، ومعنى سماع الله تعالى أنَّه لم يخف عليه، وأنَّه أعدَّ له كفاءة من العقاب.
          (قَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّداً) أي: والله الذي اختار محمَّداً صلعم (عَلَى الْعَالَمِينَ) وأصل اصطفى اصتفى؛ لأنَّه من الصَّفوة، قُلِبَتْ تاؤُه طاء؛ لأن الصاد / من المجهورة، والتاء من المهموسة فلا يعتدلان.
          (فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ، فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ، فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلعم فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ فَدَعَا النَّبِيُّ صلعم الْمُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : لاَ تُخَيِّرُونِي) أي: لا تفضِّلوني (عَلَى مُوسَى).
          فإن قيل: نبيَّنا صلعم أفضل الأنبياء والمرسلين، وقد قال: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر))، فما معنى قوله: لا تخيِّروني.
          فالجواب عنه من أوجه: أحدها: أنَّه نهى قبل أن يعلمَ أنَّه أفضلهم، فلمَّا علم قال: ((أنا سيِّد ولد آدم ولا فخر)).
          الثَّاني: نهى عن تفضيل يؤدِّي إلى تنقيص بعضهم فإنَّه كفر.
          الثَّالث: أنَّه نهى عن تفضيل يؤدِّي إلى الخصومة، كما في الحديث من لَطْمِ المسلم اليهودي.
          الرَّابع: أنَّه قاله تواضعاً وهضماً لنفسه وتأدُّباً.
          الخامس: أنَّه نهى عن التفضيل في نفس النبوَّة لا في ذوات الأنبياء ‰، وعموم رسالتهم وزيادة خصائصهم، وقد قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253].
          ويُحتَمل أن يريد صلعم : لا تفضِّلوني عليه في العمل، فلعلَّه أكثر عملاً منِّي، ولا في البلوى والامتحان فإنَّه أعظم محنة منِّي، وليس ما أعطاه الله تعالى نبينا صلعم من الفضل يوم القيامة بعمله، بل بتفضيل الله إيَّاه، قاله الِكَرمْاني.
          وأغرب ابن قُتَيبة فأجاب بأنَّه سيِّد ولد آدم يوم القيامة؛ لأنَّه الشَّافع يومئذٍ، وله لواء الحمد والحوض.
          (فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يعني: يخرِّون صرعى بصوت يسمعونه يوجب فيهم ذلك، من صَعِق يَصْعَق، من باب علم يعلم.
          وقال ابن الأثير: الصعق أن يُغشَى على الإنسان من صوت شديد يسمعه، وربَّما مات منه، ثمَّ استُعمِل في الموت كثيراً، والصَّعقة المرَّة الواحدة منه.
          وقال النَّووي: الصَّعق والصَّعقة: الهلاك والموت، يُقالُ: منه صعق الإنسان _بفتح الصاد وضمها_، وقد قُرِئَ قولُه تعالى: {يُصْعَقُونَ} [الطور:45] على البناء للفاعل وعلى البناء للمفعول. وأنكر بعضهم الضم منهم: القَزَّاز، فإنه قال: لا يقال صُعق بالضم ولا هو مصعوق.
          وقال الطَّبري بإسناده عن ابن عبَّاس ☻ : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143] قال: مغشيًّا عليه، وفي رواية: فلم يزل صعقاً ما شاء الله. وقال ابنُ الجَوْزيِّ: وهو بالموت أشبه.
          وفي «تفسير الطَّبري»: عن قَتَادة وابن جُرَيج {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} قالا: ميِّتاً. وفي «التَّهذيب» للأزهري: قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَاقَ} [الأعراف:143] / دليل الغشي؛ لأنه يُقالُ للذي غُشِيَ عليه، وللذي ذهب عقله: قد أفاق، وفي الميِّت: بُعِثَ ونُشِرَ.
          (فَأَصْعَقُ مَعَهُمْ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ) وفي لفظ: ((أوَّل مَنْ تنشقُّ عنه الأرض)) (فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ جَانِبَ الْعَرْشِ) كلمة إذا للمفاجأة، وجانب العرش ناحية من نواحيه، والبطش الأخذ الشَّديد القوي؛ أي: متعلِّق به بقوة قابض عليه بيده.
          (فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ ╡) في قوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] أن لا يَصْعَق، وهم: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ‰، وزاد كعب: حملة العرش، وعن الضَّحَّاك: هم الحور وخزنة النَّار وحملة العرش. وعن جابر ☺ موسى ◙منهم؛ لأنه صَعِق|َ مرَّة.
          وروى أنس مرفوعاً: ((ثمَّ يموت الثَّلاثة الأول، ثمَّ ملك الموت بعدهم، وملك الموت يقبضهم ثمَّ يميته الله تعالى))(1) . وروى أنس ☺ مرفوعاً: ((آخرهم موتاً جبرائيل ◙)).
          وقال سعيد بن المُسَيَّب: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}: هم الشُّهداء متقلِّدون بالسيف حول العرش.
          أو في قوله تعالى(2) : {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87] والأولى: هي النَّفخة الأُولى، والثَّانية: هي النَّفخة الثَّانية.
          هذا، قيل: ذلك مشكل؛ لأنَّ الأحاديث دالَّة على أنَّ موسى ◙قد توفِّي، وأنَّ النَّبي صلعم زار قبره.
          ووجه الإشكال: أنَّ نفخة الصَّعق إنَّما يموت بها مَنْ كان حيًّا في هذه الدَّار، فأمَّا مَنْ مات فيستحيل أن يموت ثانياً، وإنَّما يُنفَخ في الموتى نفخةُ البعث، وموسى ◙قد مات فلا يصحُّ أن يموت مرَّة أخرى، ولا يصحُّ أن يكون مستثنى من نفخة الصَّعق؛ لأنَّ المستثنين أحياء لم يموتوا، ولا يموتون، ولا يصحُّ استثناؤهم من الموتى. وقيل(3) : يُحتَمل أن يكون موسى ◙ممَّن لم يمت من الأنبياء، وهو باطلٌ.
          وقال القاضي: يُحتَملُ أن يكون المراد بهذه الصَّعقة صعقة فزع بعد الموت حتَّى تنشقَّ الأرض، فعلى هذا يكون المراد من الاستثناء هو الاستثناء في آية النَّمل، وهو الأقرب إلى الصَّواب، فحينئذٍ يكون والله أعلم صعقة الطُّور عوضاً عن صعقةِ الفزع له.
          وقال النَّووي: يُحتَمل أنَّه صلعم قال هذا قبل أن يعلمَ أنَّه أوَّل مَنْ تنشقُّ عنه الأرض إن كان هذا اللَّفظ على ظاهره، وأنَّ نبيَّنا صلعم مِنْ زمرة أوَّل مَنْ تنشقُّ عنه الأرض، فيكون موسى ◙من تلك الزُّمرة أيضاً، وهي _والله أعلم_ زمرة الأنبياء ‰، ويمكن أن يُقالَ: إنَّ الموت ليس بعدم، وإنَّما هو انتقال من دار إلى دار، فإذا كان هذا / للشُّهداء كان الأنبياء ‰ بذلك أحقُّ وأولى، مع أنَّه صح عنه صلعم أنَّ الأرض لا تأكل أجسادَ الأنبياء ‰، وأنَّ النَّبي صلعم قد اجتمع بهم ليلة الإسراء ببيت المقدس والسَّماء خصوصاً بموسى ◙، فتحصَّل من جملة هذا القطعُ بأنَّهم غُيِّبوا عنَّا بحيث لا ندركهم ولا نراهم، وإن كانوا موجودين أحياء في قبورهم يصلُّون، أو فيما بين السَّموات والأرض لا يراهم أحد من نوعنا إلَّا مَنْ خصَّه الله ╡ بكرامته، كما قرَّره الإمام السُّيوطي في رسالةٍ مستقلَّة.
          وإذا تقرَّر ذلك؛ أي: أنَّهم أحياء في قبورهم، فيما بين السَّموات والأرض، فإذا نُفِخَ في الصُّور نفخةُ الصَّعقِ صَعِقَ كلُّ مَنْ في السَّموات والأرض إلَّا مَنْ شاء الله، فأمَّا صَعْقُ غير الأنبياء فموت، وأمَّا صَعْقُ الأنبياء فالأظهر أنَّه غَشْيٌ، فإذا نُفِخَ في الصُّور نفخةُ البعثِ فمَنْ مات حُيِّيَ، ومَنْ غَشِيَ عليه أَفَاقَ، فإذا تحقَّق هذا عُلِمَ أن نبيَّنا صلعم أوَّلُ مَنْ يفيق، وأوَّل مَنْ يخرج من قبره قبل النَّاس كلِّهم الأنبياء وغيرهم، إلَّا موسى ◙، فإنه حصل له فيه تردُّد هل بُعثَ قبله أو بقي على الحالة التي كان عليها، وعلى أيِّ الحالتين كان فهي فضيلة عظيمة لموسى عليه الصَّلاة السَّلام ليست لغيره.
          قال العَينيُّ: ولقائل أن يقولَ: إنَّ سيَّدنا محمَّداً صلعم لَمـَّا رفع بصرهُ حين الإفاقة يكون إلى جهة من جهات العرش، ثمَّ ينظر ثانياً إلى جهةٍ أُخرى منه فيجد موسى ◙وبه يلتئم قوله: «أنا أوَّل مَنْ تنشقُّ عنه الأرض» بقوله: «إذا موسى باطشٌ جانب العرش» والله أعلم فافهم.
          وأمَّا الذي يأتي في حديث أبي سعيد ☺ عقيب هذا من قوله: فلا أدري أكان فيمَنْ صَعِقَ أم حُوسِب بصعقته الأولى؛ أي: صعقة الطُّور، كما في رواية، فالجمع بينهما أن المعنى: لا أدري أيُّ هذه الثَّلاثة كانت الإفاقة أو الاستثناء أو المحاسبة، فليُتأَمَّل.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: استبَّ رجلان، فإنَّ الاستباب عن اثنين لا يكون إلَّا عن خصومة. والحديث أخرجه المؤلِّف في التَّوحيد [خ¦7472]، وفي الرِّقاق أيضاً [خ¦6517].
          وأخرجه مسلم في «الفضائل»، وأبو داود في «السنَّة»، والنَّسائي في «النعوت» وفي «التَّفسير».


[1] من قوله: وروى أنس... إلى قوله: يميته الله تعالى: ليس في (خ).
[2] في هامش الأصل: قوله: أو في قوله تعالى، عطف على قوله: في قوله تعالى: {فصعق}... إلى آخره. منه.
[3] في هامش الأصل: عسقلاني.