إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: من سمع سمع الله به

          6499- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) هو ابنُ مسرهدٍ قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) بن سعيدٍ القطَّان (عَنْ سُفْيَانَ) الثَّوريِّ، أنَّه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ) بضم الكاف وفتح الهاء، ابن يحيى الحضرميُّ من علماء الكوفة. قال البخاريُّ: (وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ) الفضل بن دُكينٍ قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) الثَّوريُّ (عَنْ سَلَمَةَ) بن كُهيلٍ، أنَّه (قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَُبًا) بضم الجيم وسكون النون وضم المهملة وفتحها، ابن عبد الله البجليَّ (يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم ) قال سلمة بن كُهيلٍ: (وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا) من الصَّحابة (يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم غَيْرَهُ) غير جندبٍ، أو مراده _كما قال الكِرمانيُّ_: ولم يبقَ من الصَّحابة حينئذٍ غيره في ذلك المكان، لكن تعقَّبه في «الفتح» بأنَّه كان بالكوفةِ / حينئذٍ أبو جُحيفةَ السَّوائيُّ وعبد الله بن أبي أوفى، وقد(1) روى سلمة عن كلٍّ منهما، فتعيَّن(2) أن يكون مراده أنَّه لم يسمع منهما، ولا من أحدِهما، ولا من غيرهما ممَّن كان موجودًا من الصَّحابة بغير الكوفة بعد أن سَمِعَ من جندبٍ الحديث المذكور عن النَّبيِّ صلعم شيئًا (فَدَنَوْتُ) قربت (مِنْهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم : مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ) بفتح المهملة والميم المشددة فيهما. قال الحافظ المنذريُّ، أي: مَن أظهر عمله للنَّاس رياءً أظهرَ الله نيَّته الفاسدة في عملهِ يوم القيامة وفضحَه على رؤوسِ الأشهادِ. وقال في «المصابيح»: هو على(3) المُجازاة من جنسِ العمل، أي: مَن شهَّر عمله سمَّعه الله ثوابه ولم يُعطه إيَّاه، وقيل: مَن أسمع النَّاسَ عملَه سمَّعهم الله إيَّاه، وكان ذلك حظَّه من الثَّواب، وقال غيره: أي: مَن قصد بعملهِ الجاهَ والمنزلةَ عند النَّاس ولم يُرِدْ به وجه الله، فإنَّ الله يجعله حديثًا عند النَّاس الَّذين(4) أراد نيلَ المنزلة عندهم ولا ثوابَ له في الآخرة (وَ) كذلك (مَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ) بضم التَّحتية وكسر الهمزة بعدها تحتية للإشباع فيهما، فلا يظفرُ من ريائه إلَّا بفضيحتهِ وإظهار ما كان يُبطنه(5) من سوءِ الطَّويَّة، نعوذ بالله(6) من ذلك، ولابن المبارك في «الزُّهد» من‼ حديثِ ابن مسعودٍ: «مَن سمَّع سمَّع الله به، ومَن رايا رايا الله به، ومَن تطاولَ تعاظمًا(7) خفضه الله، ومَن تواضعَ تخشُّعًا(8) رفعه الله»، وفي حديث جابرٍ عند الطَّبرانيِّ من طريق محمَّد بن جُحادة، عن سلمةَ بن كهيلٍ في آخر هذا الحديث: «ومَن كان ذا لِسانين في الدُّنيا جعل الله له لِسانين من نار يوم القيامة». ولْيُعْلَم أنَّ الرِّياء يكون بالبدن كإطراقهِ رأسه ليُرى أنَّه مُتخشِّعٌ، والهيئة كإبقاء أثرِ السُّجود، والثِّياب كلبسه خَشِنَهَا وقصيرهَا(9) جدًّا، والقول كالوعظِ وحفظِ علوم الجدلِ، وتحريك شفتيهِ بحضور النَّاس، وكلُّ واحدٍ منها(10) قد يراءى به باعتبار الدِّين وباعتبار الدُّنيا، وحُكم الرِّياء بغير العبادات حُكم طالب المال والجاه، وحُكم محض الرِّياء بالعبادةِ إبطالها، وإن اجتمعَ قصد الرِّياء وقصد العبادةِ أعطي الحكم للأقوى، فيحتملُ الوجهين(11) في إسقاطِ الفرض به، والمُصرُّ(12) على إطلاعِ الغير على عبادتهِ إن كان لغرضٍ دُنيويٍّ كإفضائهِ إلى الاحترامِ، أو شبهه فهو مذمومٌ، وإن كان لغرضٍ أُخروي كالفرحِ بإظهارِ الله جميله وسترِه قبيحه، أو لرجاء الاقتداءِ به فممدوحٌ، وعليه يُحمل ما يحدِّث(13) به الأكابرُ من الطَّاعات، وليس من الرِّياء سترُ المعصية بل ممدوحٌ، وإن(14) عَرض له الرِّياء في أثناءِ العبادة، ثمَّ زالَ قبل فراغها لم يَضرّ، ومتى عَلِم من نفسه القوَّة أظهر القُربة، وقد قيل: اعملْ ولو خفت عجبًا مستغفرًا منه.
          والحديث أخرجهُ مسلمٌ في آخر الكتاب، وابن ماجه في «الزُّهد»، والله الموفِّق.


[1] في (د): «فقد».
[2] في (ص): «فيتعين».
[3] «على»: ليست في (ع).
[4] في (ع): «الَّذي».
[5] في (ص): «مبطنه»، وفي (ع): «ببطنه».
[6] «نعوذ بالله»: لم يرد في (ب).
[7] في (ص): «تعظُّمًا».
[8] في (ص): «متخشِّعًا».
[9] في (ص): «قصَّرها».
[10] في (د): «منهما».
[11] في (ص) و(ع): «وجهين».
[12] في (د) و(ص) و(ع): «المسرَّة».
[13] في (ص): «حدث».
[14] في (ص) زيادة: «كان».