إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة

          6469- وبه قال: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) سقط «ابن سعيد» لأبي ذرٍّ، قال: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الفارسيُّ المدنيُّ نزيل الإسكندريَّة (عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو) بفتح العين فيهما، مولى المطَّلب التَّابعيِّ الصَّغير (عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) بكسر العين فيهما (المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ ) أنَّه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: إِنَّ اللهَ) ╡ (خَلَقَ الرَّحْمَةَ) الَّتي يرحمُ بها عباده (يَوْمَ خَلَقَهَا مِئَةَ رَحْمَةٍ) أي: مئةَ نوعٍ، أو مئة جزءٍ (فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ) تعالى منها (تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً) والرَّحمة في الأصل بمعنى: الرِّقَّةِ الطَّبيعيَّةِ والميلِ الجِبلِّيِّ، وهذا من صفاتِ الآدميين، فهو من الباري تعالى مؤوَّلٌ، وللمتكلِّمينَ في تأويلِ ما لا تسوغُ نسبته إلى الله تعالى على حقيقتهِ اللُّغوية وجهان: الحملُ على الإرادةِ فيكون من صفات الذَّات، والآخرُ الحمل على فعلِ الإكرام، فيكون من صفاتِ الأفعال كالرَّحمة، فمنهم من يحملها على إرادةِ الخير، ومنهم من يحملها على فعلِ الخير، ثمَّ بعد ذلك يتعيَّن أحد التَّأويلين في بعضِ السِّياقات لمانعٍ يمنع من الآخر، فههنا يتعيَّن تأويل الرَّحمة بفعل الخير؛ لتكون صفةَ فِعْلٍ فتكون حادثةً عند الأشعريِّ فيتسلَّط الخلق عليها، ولا يصحُّ هنا تأويلُها بالإرادة؛ لأنَّها إذ ذاك من صفاتِ الذَّات، فتكون قديمةً فيمتنعُ تعلُّق الخلق بها، ويتعيَّن تأويلها بالإرادةِ في قوله تعالى: {لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ}[هود:43] لأنَّك لو حملتَها على الفعلِ لكانت العصمة بعينها، فيكون استثناء الشَّيء من نفسه(1)، وكأنَّك(2) قلت: لا عاصم إلَّا العاصم، فتكون الرَّحمة الإرادة والعصمة على بابها بمعنى(3) المنع من المكروهات، كأنَّه قال: لا يمنعُ من المحذور إلَّا من أراد السَّلامة.
          (فَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ) الواسعةِ (لَمْ يَيْأَسْ) لم يقنطْ (مِنَ الجَنَّةِ) بل يحصلْ له الرَّجاء فيها؛ لأنَّه يغطي عليه ما يعلَمُه(4) من العذابِ العظيم، وعبَّر بالمضارع في قوله: «يعلم» دون الماضي إشارةً إلى أنَّه لم يقعْ له علم ذلك ولا يقع لأنَّه إذا امتنع في المستقبلِ كان ممتنعًا فيما مضى. وقال الكِرمانيُّ: «لو» هنا(5) لانتفاءِ الثَّاني، وقال(6): «فلو» بالفاء إشارة إلى ترتيب ما بعدها على ما قبلها. واستُشكلَ التَّركيب في قوله: «بكلِّ الَّذي» لأنَّ «كُلّ» إذا أضيفتْ إلى الموصولِ كانت إذ ذاك لعمومِ الأجزاءِ لا لعمومِ الأفراد، والمرادُ من سياق الحديث تعميم الأفراد‼؟ وأُجيب بأنَّه وقعَ في بعض طرقهِ أنَّ الرَّحمة قُسمت مئة جزء، فالتَّعميم حينئذٍ لعمومِ الأجزاءِ في الأصلِ، أو نُزِّلتِ الأجزاءُ منزلةَ الأفراد / مبالغةً (وَلَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ) ╡ (مِنَ العَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ).
          ومطابقةُ الحديث للتَّرجمة من جهةِ أنَّه اشتملَ على الوعدِ والوعيدِ المقتضيين للرَّجاء والخوفِ.


[1] في (ص) و(ع) و(د) و(ج): «بنفسه». وكتب على هامش (ج): عبارة «المصابيح»: من نفسه.
[2] في (د): «فكأنك».
[3] في (د): «بابها كفعل».
[4] في (د): «ما لا يعلمه».
[5] «لو هنا»: ليست في (د).
[6] «الكِرمانيّ: لو هنا لانتفاء الثَّاني، وقال»: ليست في (ص).