إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ليس الغنى عن كثرة العرض

          6446- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ يُونُسَ) هو أحمدُ بن عبد الله بنِ يونس اليربوعيُّ قال: (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ) هو ابنُ عيَّاش _بالتَّحتية المشدَّدة آخره شين معجمة_ راوي قراءة عاصم، أحدُ القرَّاء السَّبعة، قال: (حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ) بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، عثمانُ بن عاصم الأسديُّ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان الزَّيَّات (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: لَيْسَ الغِنَى عَنْ) سببِ (كَثْرَةِ العَرَضِ) بفتح العين المهملة(1) والراء وبالضاد المعجمة، ما يُنتفع به من متاع الدُّنيا سوى النَّقدين. وقال أبو عُبيد: الأمتعةُ وهي ما سوى الحيوان والعقار وما لا يدخلهُ كيلٌ ولا وزنٌ. وقال في «المشارق» _ممَّا نقله‼ عنه في «التنقيح»_: قال ابن فارس في «المقاييس» _وذكر هذا الحديث_ إنَّما سمعناه(2) بسكون الراء، وهو كلُّ ما كان من المال غير نقدٍ، وجمعه: عروض، وأمَّا العرَض _بفتح الراء_ فما يصيبه الإنسان من حظِّه في الدُّنيا. قال الله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}[الأنفال:67] {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}[الأعراف:169]. انتهى. أي: ليس الغنى الحقيقيُّ المعتبر كثرةَ المال؛ لأنَّ كثيرًا ممَّن وسَّع الله(3) عليه في المال لا يقنع(4) بما أُوتي، فهو يجتهدُ في الازدياد ولا يُبالي من أين يأتيه، فكأنَّه فقيرٌ من شدَّة(5) حرصهِ (وَلَكِنَّ) بتشديد النون، ولأبي ذرٍّ بتخفيفها (الغِنَى) الحقيقيّ المعتبر الممدوح (غِنَى النَّفْسِ) بما أُوتيت وقنعها به ورضاها وعدمِ حرصها على الازديادِ والإلحاح في الطَّلب؛ لأنَّها إذا استغنت كفَّت عن المطامع، فعزَّت وعظمتْ وحصل لها من الحُظوة والنَّزاهة والشَّرف والمدح أكثر من الغنى الَّذي ينالهُ من يكون فقير النَّفس بحرصهِ، فإنَّه يورِّطه في رذائلِ الأمور وخسائسِ الأفعال؛ لدناءة همَّته وبخله، ويكثر ذامُّه من النَّاس ويصغرُ قدره عندهم، فيكون أحقرَ من كلِّ حقيرٍ، وأذلَّ من كلِّ ذليلٍ(6)، وهو مع ذلك كأنَّه فقيرٌ من المال لكونهِ لم يستغنِ بما أُعطِي فكأنَّه ليس بغنيٍّ، ولو لم يكن في ذلك إلَّا عدم رضاهُ بما قضاه الله لكفاهُ(7).
          فإن قلتَ: ما وجهُ مناسبة الآيات للحديث؟ قال في «الفتح»: لأنَّ خيريَّة المال ليست بذاتهِ بل بحسب ما يتعلَّق به، وإن كان يسمَّى خيرًا في الجملةِ، وكذلك صاحب المالِ الكثير ليس غنيًّا لذاتهِ بل بحسب تصرُّفه فيه، فإن كان في نفسه غنيًّا لم يتوقَّف في صرفه في الواجبات والمستحبَّات من وجوهِ البرِّ والقُربات، وإن كان في نفسهِ فقيرًا أمسكهُ، وامتنعَ من بذلهِ فيما أمرَ به خشيةً من نفادهِ فهو في الحقيقةِ فقيرٌ صورةً ومعنًى وإنْ كان المالُ تحت يدهِ لكونهِ لا ينتفعُ به لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ، بل ربَّما كان وبالًا عليه.
          والحديثُ أخرجهُ التِّرمذيُّ في «الزُّهد».


[1] «المهملة»: ليست في (س).
[2] في (د) و(ص) و(ع) و(ج) و(ل): «جمعناه».
[3] «الله»: ليست في (س).
[4] في (د) و(ع): «ينتفع».
[5] في (ص): «فقير لشدة».
[6] في (د): «وأرذل من كل رذيل».
[7] «لكفاه»: ليست في (ع) و(ص).