إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله

          1033- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ) و(1) لأبوي ذَرٍّ والوقت وابن عساكر: ”محمَّد بن مقاتلٍ“ (قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ) ولأبي ذَرٍّ: ”عبد الله بن المبارك“ (قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ) أبو عمرٍو عبد الرَّحمن (قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ) المدني (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) ☺ (قَالَ: أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ) بفتح السِّين، أي: شِدَّةٌ وجهدٌ مِن الجَدْب، فاعلٌ مؤخَّرٌ (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم ، فَبَيْنَا) بغير ميمٍ بعد النُّون (رَسُولُ اللهِ) ولأبي ذَرٍّ: ”النَّبيُّ“ ( صلعم يَخْطُبُ عَلَى المِنْبَرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ قَامَ أَعْرَابِيٌّ) من أهل البدو(2)، لا يُعرف(3) اسمُه (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ المَالُ) ألفه منقلبةٌ عن واوٍ بدليل ظهورها في الجمع، وإنَّما جُمعَ وإن كان اسم جنسٍ لاختلاف أنواعه، وهو كلُّ ما يُتملَّك ويُنتَفَع به، والمراد به هنا مالٌ خاصٌّ، وهو ما يَتضرَّر بعدم المطر من الحيوان والنَّبات، لكن لا مانع من حمله على عمومه على معنى أنَّ شدَّة الغلاء تُذهِب أموال النَّاس في شراء ما يُقتات به، فقد(4) هلكت الأموال وإن اختلف السَّبب (وَجَاعَ العِيَالُ) لقلَّة الأقوات، أو عدمها بحبس المطر (فَادْعُ اللهَ لَنَا أَنْ يَسْقِيَنَا، قَالَ) أنسٌ: (فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَدَيْهِ) أي: حتَّى رُئِيَ بياض إبطيه (وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ) بفَتَحَاتٍ، قطعةٌ من سحابٍ (قَالَ) أنسٌ: (فَثَارَ السَّحَابُ) بالمثلَّثة، وفي نسخة «اليونينيَّة»: «سحابٌ»(5) أي: هاج (أَمْثَالُ الجِبَالِ) لكثرته (ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ) ╕ (عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ المَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ) المقدَّسة، وهذا موضع التَّرجمة لأنَّ «تَفَعَّل» في قوله: «تَمَطَّر» _كما قال(6) في «الفتح»_ الأليق بها(7) هنا أن تكون(8) بمعنى مواصلة العمل في مهلةٍ، نحو تَفَكَّر، وكأنَّ المؤلِّف أراد أن يبيِّن أنَّ تحادر المطر على لحيته عليه / الصَّلاة والسَّلام، لم يكن اتفاقًا، إذ كان يمكنه التَّوقِّي منه بثوبٍ ونحوه كما قاله في «المصابيح»، أو بنزوله عن المنبر أوَّل ما وكف السَّقف، لكنَّه(9) تمادى في خطبته حتَّى كثر نزوله بحيث تحادر‼ على لحيته كما قاله في «الفتح» فترك فعلَ ذلك قصدًا للتَّمطُّر، وتعقَّبه العينيُّ بأنَّ «تَفَعَّل» يأتي لمعانٍ، للتَّكلُّف كتشجَّع لأن معناه: كلَّف نفسه الشَّجاعة، وللاتِّخاذ(10) نحو: توسَّدت التُّراب، أي: اتَّخذته وسادةً، وللتَّجنُّب نحو: تأثَّم، أي: جانب الإثم، وللعمل، يعني: فيدلُّ على أنَّ أصل الفعل حصَل مرَّةً بعد مرَّةٍ نحو: تجرَّعتُه، أي: شربتُه جرعةً بعد جرعةٍ، قال: ولا دليل في قوله: «حتَّى رأيت المطر يتحادر على لحيته» على التَّمطُّر الَّذي هو مِن(11) التَّفعُّل الدَّالِّ على التَّكلُّف، ودعوى أنَّه قصد التَّمطُّر لا برهان عليها، وليس في الحديث ما يدلُّ لها. واستدلاله بقوله: لأنَّه لو لم يكن باختياره لنزل عن المنبر لا يساعده؛ لأنَّ لقائلٍ أن يقول: عدم(12) نزوله عن المنبر إنَّما كان لئلَّا يقطع الخطبة، كذا قال فليُتأمَّل. (قَالَ) أنسٌ: (فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا) ظرفٌ، أي: في يومنا (ذَلِكَ، وَفِي الغَدِ) ولأبوي ذَرٍّ والوقت(13) وابن عساكر: ”ومن الغد“ (وَمِنْ بَعْدِ الغَدِ وَالَّذِي يَلِيهِ إِلَى الجُمُعَةِ الأُخْرَى، فَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ، أَوْ) قال أنسٌ: قام (رَجُلٌ غَيْرُهُ) ولا منافاة بين تردُّد أنسٍ هنا وبين قوله في الرِّواية الأخرى: «فأتى الرَّجل» بالألف واللَّام، المفيد(14) للعهد الذِّكريِّ؛ إذ ربَّما نسي ثمَّ تذكَّر، أو كان ذاكرًا ثمَّ نسي (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَهَدَّمَ البِنَاءُ، وَغَرِقَ المَالُ) من كثرة المطر (فَادْعُ اللهَ لَنَا)(15) يمسكْها عنَّا (فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَدَيْهِ، وَقَالَ) بالواو، ولأبي ذَرٍّ وابن عساكر وأبي الوقت(16): ”فقال“: (اللَّهُمَّ) أي: يا الله، أنزل المطر (حَوَالَيْنَا، وَلَا) تنزله (عَلَيْنَا) وفي بعض الرِّوايات: «حولنا» من غير ألفٍ، وهما بمعنًى، وهو في موضع نصبٍ؛ إمَّا على الظَّرف، وإمَّا على المفعول به، والمراد بحوالي المدينة مواضعُ(17) النَّبات أو الزُّروع(18)، لا في نفس المدينة وبيوتها، ولا فيما حوالي المدينة من الطُّرق، وإلَّا لم تزل(19) بذلك شكواهم جميعًا، ولم يطلب ╕ رفع المطر من أصله، بل سأل رفعَ ضررِه، وكشْفَه عن البيوت والمرافق والطُّرق بحيث لا يتضرَّر به ساكنٌ ولا ابن سبيلٍ، بل سأل(20) إبقاءه في مواضع(21) الحاجة لأنَّ الجبال والصَّحارى ما دام المطر فيها كثرت الفائدة فيها في المستقبل مِن كثرة المرعى(22) والمياه وغير ذلك من المصالح، وفي هذا دليلٌ على قوَّة إدراكه ╕ للخير على سرعة البديهة. (قَالَ) أنسٌ: (فَمَا جَعَلَ) ╕ (يُشِيرُ بِيَدِهِ) ولأبي ذَرٍّ: ”فما جعل يشير رسول الله صلعم بيده“ (إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا تَفَرَّجَتْ) بفتح المثنَّاة الفوقيَّة والفاء وتشديد الرَّاء وبالجيم، أي: تقطَّع السَّحاب وزال عنها امتثالًا لأمره صلعم ، وفيه دلالةٌ على عِظَم معجزته(23) ╕ ‼ وهو أن سُخِّرت له السُّحب(24)، كلَّما(25) أشار إليها امتثلت بالإشارة دون كلامٍ (حَتَّى صَارَتِ المَدِينَةُ فِي مِثْلِ الجَوْبَةِ) بفتح الجيم وسكون الواو وبالموحَّدة، أي: تقطَّع السَّحاب عن المدينة، وصار مستديرًا حوالَيها، وهي خاليةٌ منه (حَتَّى سَالَ الوَادِي _وَادِي قَنَاةَ_) بفتح القاف والنُّون الخفيفة: وادٍ من أودية المدينة عليه حرثٌ ومزارع، وأضافه هنا إلى نفسه(26) أي: جرى فيه الماء من المطر (شَهْرًا) و(27) هو مِن أبعدِ أمد المطر الَّذي يُصلح الأرضَ الَّتي هي متوعِّرةٌ جبليَّةٌ لأنَّه يتمكَّن في تلك الأيَّام بطولها الرَّيّ فيها؛ لأنَّها بارتفاع(28) أقطارها لا يثبت الماء عليها، فتبقى فيها حرارةٌ، فإذا دام سَكْب المطر عليها قلَّت(29) تلك الحرارة وخصبت الأرض. (قَالَ) أنسٌ: (فَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا حَدَّثَ بِالجَوْدِ) بفتح الجيم وسكون الواو، أي: بالمطر الكثير.


[1] «و»: مثبتٌ من (د) و(س).
[2] في (د): «البادية»، وفي (ص): «البلد».
[3] في (د): «لم يُعرَف».
[4] في (ب) و(س): «يقتاتون به»، وفي (د): «ما يقتاتون فقد».
[5] قوله: «وفي نسخة اليونينيَّة: سحابٌ» سقط من (م).
[6] «قال»: ليس في (د).
[7] في (ب) و(س): «به».
[8] في (ب) و(س): «يكون».
[9] في (د): «لكن».
[10] في (د): «والاتِّخاذ».
[11] «مِن»: ليس في (د).
[12] في (ص): «لعدم»، وليس بصحيحٍ.
[13] زيد في (ص) و(س) (ب): «والأَصيلي».
[14] في غير (د): «المفيدة».
[15] زيد في (د): «أنْ».
[16] «وأبي الوقت»: ليس في (د).
[17] في (م): «موضع».
[18] في (ب) و(س): «الزَّرع».
[19] في (د): «يزل».
[20] زيد في (د) اسم الجلالة: «الله».
[21] في (م): «موضع».
[22] في (م): «الرَّعي».
[23] في (د) و(م): «معجزاته».
[24] في (د): «السَّحاب».
[25] في (م): «كما».
[26] في (م): «هنا لنفسه».
[27] زيد في (د): «قال».
[28] في (ب): «لارتفاع».
[29] في (د): «قَلَبَ».