إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن قريشًا أبطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم

          1020- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ) العبديُّ البصريُّ (عَنْ سُفْيَانَ) الثَّوريِّ قَالَ: (حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ وَالأَعْمَشُ) سليمان بن مهران، كلاهما (عَنْ أَبِي الضُّحَى) مسلم بن صُبَيحٍ بالتَّصغير (عَنْ مَسْرُوقٍ) هو ابن الأجدع (قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ) عبد الله ☺ ، وفي سورة الرُّوم من «التَّفسير» [خ¦4774] عن مسروقٍ قال: «بينما رجلٌ يحدِّث في كِنْدَة فقال: يجيء دخانٌ يوم القيامة، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، يأخذ المؤمن كهيئة الزُّكام، ففزعنا، فأتيت ابن مسعودٍ» (فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا أَبْطَؤُوا) أي: تأخَّروا (عَنِ الإِسْلَامِ) ولم يبادروا إليه (فَدَعَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلعم ) فقال: «اللهم أعنِّي عليهم بسبعٍ كسبع يوسفَ» [خ¦4774] (فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ) بفتح السِّين، أي: جَدْبٌ وقحطٌ (حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا، وَأَكَلُوا المَيْتَةَ وَالعِظَامَ) ويرى الرَّجل ما بين السَّماء والأرض كهيئة(1) الدُّخان من ضعف بصره بسبب الجوع (فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ) صخر بن حربٍ (فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، جِئْتَ تَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ) ذوي رحمك (هَلَكُوا) وللكُشْمِيْهَنِيِّ: ”قد هلكوا“ أي: بدعائك عليهم من الجدْب والجوع (فَادْعُ اللهَ) تعالى لهم، فإنْ كشف عنَّا نؤمن بك(2) (فَقَرَأَ) ╕ ({فَارْتَقِبْ }) أي: انْتَظِر لهم(3) ({ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ })[الدخان:10] زاد أبو ذرٍّ: ”الآيةَ“ (ثُمَّ عَادُوا) لمَّا كشف الله عنهم (إِلَى كُفْرِهِمْ) فابتلاهم الله تعالى بيوم البطشة (فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى}[الدخان:16] يَوْمَ بَدْرٍ) أو يوم القيامة، زاد الأَصيليُّ: ”{ إِنَّا مُنتَقِمُونَ }“ والعامل في: { يَوْمَ } فعلٌ دلَّ عليه: { إِنَّا مُنتَقِمُونَ } لأنَّ «إنَّ» مانعٌ من عمله فيما قبله، أو بدلٌ مِن: { يَوْمَ تَأْتِي} وهذا يدلُّ على أنَّ مجيء أبي سفيان إليه صلعم كان قبل الهجرة لأنَّه لم ينقل أنَّ أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر.
          (قَالَ) أي: البخاريُّ (وَزَادَ) ولابن عساكر: ”قال أبو عبد الله“ وسقط ذلك كلُّه لأبي ذَرٍّ، واقتصر على قوله: وزاد (أَسْبَاطٌ) بفتح الهمزة وسكون المهملة وبالموحَّدة آخره طاءٌ مهملةٌ، ابن نصرٍ، لا أسباط بن محمَّدٍ (عَنْ مَنْصُورٍ) عن أبي الضُّحى، يعني بإسناده السَّابق: (فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلعم ، فَسُقُوا الغَيْثَ) بضمِّ السِّين والقاف مبنيًّا للمفعول / ، ونصب «الغيث»: مفعوله الثَّاني (فَأَطْبَقَتْ) أي: دامت وتواترت (عَلَيْهِمْ سَبْعًا) أي: سبعة أيَّامٍ، وسقطت التَّاء لعدم ذكر المميَّز، فإنَّه يجوز فيه الأمران‼ حينئذٍ، وفي «تفسير سورة الدُّخان» [خ¦4823] من رواية أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي الضُّحى، في هذا الحديث: فقيل: يا رسول الله، استسقِ الله لِمُضَرَ فإنَّها قد هلكت، قال: «لِمُضَرَ؟! إنَّك لجريءٌ» فاستسقى فسُقوا. انتهى. والقائل: «قيل(4): يا رسول الله» الظَّاهر أنَّه أبو سفيان لما ثبت في كثيرٍ من طرق هذا الحديث في «الصَّحيحين»: فجاء أبو سفيان، وإنَّما قال: «لمضرَ» [خ¦4821] لأنَّ غالبهم كان بالقرب من مياه الحجاز، وكان الدُّعاء بالقحط على قريشٍ وهم سكَّان مكَّة، فسرى القحط إلى مَن حولهم، ولعلَّ السَّائل عَدَل عن التَّعبير بـ «قريشٍ» لئلَّا يذكِّره بجرمهم، فقال: «لمضرَ» ليندرجوا فيهم، ويشير أيضًا إلى أنَّ غير المدعوِّ عليهم قد هلكوا بجريرتهم، وقوله: «لمضرَ؟! إنَّك لجريءٌ» أي: أتطلب أن أستسقي لهم مع ما هم عليه من معصية الله(5) والإشراك به؟! وفي «دلائل البيهقيِّ» عن كعب بن مرَّة، أو مرَّة بن كعبٍ قال: «دعا رسول الله صلعم على مضرَ، فأتاه أبو سفيان بمكَّة(6)، فقال: ادعُ الله لقومك فإنَّهم(7) قد هلكوا»، ورواه أحمد وابن ماجه عن كعب بن مرَّة قال: جاءه رجلٌ فقال: استسقِ الله لِمُضَرَ. فقال: «إنَّك لجريءٌ، أَلمضرَ؟!» قال: يا رسول الله، استنصرت الله فنصرك، ودعوت الله فأجابك، فرفع يديه فقال «اللَّهم اسقنا غيثًا مغيثًا، مريعًا مريئًا(8) طَبَقًا، عاجلًا غير رائثٍ، نافعًا غير ضارٍّ...» الحديثَ. فظهر بذلك أنَّ هذا الرَّجل المبهم المقول له: «إنَّك لجريءٌ» هو(9) أبو سفيان. وأخرج أحمد أيضًا والحاكم عن كعب بن مرَّة أيضًا، قال: «دعا رسول الله صلعم على مُضَرَ، فأتيته فقلت: يا رسول الله، إنَّ الله قد نصرك، وأعطاك، واستجاب لك، وإنَّ قومك قد هلكوا...» الحديثَ، فظهر أنَّ فاعل «قال: يا رسول الله» _في(10) الحديث الَّذي قبل هذا_ هو كعب بن مرَّة راويه، وعلى هذا فكأنَّ أبا سفيان وكعبًا حضرا جميعًا، فكلَّمه أبو سفيان بشيءٍ، وكعبٌ بشيءٍ، فدلَّ على اتِّحاد قصَّتهما، وقد ثبت في هذه ما ثبت في تلك من قوله: «إنَّك لجريءٌ» وغير ذلك، وسياق كعب بن مرَّة يشعر(11) بأنَّ ذلك وقع بالمدينة لقوله: «استنصرت الله فنصرك»، ولا يلزم من هذا اتِّحاد هذه القصَّة مع قصَّة أنسٍ السَّابقة، فهي واقعةٌ أخرى لأنَّ في رواية أنسٍ: «فلم ينزل عن المنبر حتَّى مُطِروا»، وفي هذه: «فما كان إلَّا جمعةٌ أو نحوها حتَّى مُطِروا»، والسَّائل في هذه القصَّة غير السَّائل في تلك، فهما قصَّتان، وقع في كلٍّ منهما طلب الدُّعاء بالاستسقاء، ثمَّ طلب الدُّعاء بالاستصحاء، كذا قرَّره الحافظ ابن حجرٍ رادًّا به على من غلَّط أسباط بن نصرٍ في هذه الزِّيادة، ونسبه إلى أنَّه أدخل حديثًا في(12) آخرَ‼، وأنّ قوله: «فسُقُوا الغيث»، إنَّما كان في قصَّة المدينة(13) الَّتي رواها أنسٌ، لا في قصَّة قريشٍ، وأجاب البرماويُّ: بأنَّ المعنى أنَّ سفيان يروي عن منصور واقعة مكَّة وسؤالَ أهل مكَّة وهو بها قبل الهجرة، وزاد عليه أسباطٌ عن منصورٍ ذكر الواقعتَين، لا أنَّ(14) الثَّانية مسبَّبة عن الأولى(15)، ولا أنَّ(16) السُّؤال فيهما معًا كان بالمدينة. انتهى(17). (وَشَكَا النَّاسُ) إليه صلعم (كَثْرَةَ المَطَرِ، قَالَ) وللأربعة: ”فقال“: (اللَّهُمَّ) أنزل المطر (حَوَالَيْنَا وَلَا) تنزله(18) (عَلَيْنَا، فَانْحَدَرَتِ السَّحَابَةُ عَنْ رَأْسِهِ، فَسُقُوا النَّاسَُ حَوْلَهُمْ) برفع «النَّاسُ» على البدل من الضَّمير، أو فاعلٌ على لغةِ: «أكلوني البراغيثُ»، ويجوز النَّصب على الاختصاص، أي: أعني النَّاسَ الَّذين في المدينة وحولها.


[1] في (م): «هيئة».
[2] في (م): «لك».
[3] في (م): «أي: انتظرْهم».
[4] «قيل»: ليس في (س).
[5] في (م): «معصيته».
[6] «بمكَّة»: ليس في (د) و(م). وهي ثابتة في (ج).
[7] «فإنَّهم»: ليس في (ص) و(م).
[8] «مريئًا»: مثبتٌ من (ص). وكذا هي ثابتة في الفتح مصدر نقل المؤلف.
[9] «هو»: ليس في (د).
[10] زيد في (ص): «هذا».
[11] في (ب) و(س): «مشعرٌ».
[12] «في»: ليس في (ص).
[13] في (د): «الحديبية»، وليس بصحيحٍ.
[14] في (م): «لأنَّ»، وهو خطأٌ.
[15] في (م): «الأوَّل».
[16] في (ص) و(م): «لأنَّ»، وهو خطأٌ. والمثبت موافق للامع الصبيح.
[17] «انتهى»: ليس في (ب).
[18] «تنزله»: ليس في (د).