إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم

          7308- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ) هو عبد الله بن عثمان، وعبدان لقبه قال: (أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ) بالحاء المهملة والزَّاي، محمَّد بن ميمون السُّكَّريُّ قال: (سَمِعْتُ الأَعْمَشَ) سليمان بن مهران (قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ) شقيق بن سلمة: (هَلْ شَهِدْتَ) وقعة (صِفِّينَ) التي كانت بين عليٍّ ومعاوية؟ (قَالَ: نَعَمْ) حضرتُها (فَسَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ) بضمِّ الحاء وفتح النون (يَقُولُ)... (ح) لتحويل السَّند إلى آخر، قال البخاريُّ: (وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ) / التَّبوذكيُّ الحافظ قال: (حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ) الوَّضَّاح اليشكريُّ (عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ) أنَّه (قَالَ: قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ) ☺ يوم صِفِّين وقد كانوا يتَّهمونه بالتَّقصير‼ في القتال يومئذٍ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ) في هذا القتال (عَلَى دِينِكُمْ) فإنَّما تقاتلون إخوانكم في الإسلام باجتهادٍ اجتهدتموه، وقال في «الفتح»: أي: لا تعملوا في أمر الدِّين بالرَّأي المجرَّد الذي لا يستند إلى أصلٍ من الدِّين، وقال ابن بطالٍ: وهذا وإن كان يدلُّ على ذمِّ الرَّأي لكنَّه مخصوصٌ بما إذا كان معارضًا للنصِّ، فكأنَّه قال: اتَّهموا الرَّأي إذا خالف السُّنة (لَقَدْ رَأَيْتُنِي) أي: رأيت نفسي (يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ) بفتح الجيم والدَّال المهملة بينهما نونٌ ساكنةٌ آخره لامٌ، ابن سُهَيل ابن عمرٍو؛ إذ جاء يَرْسُفُ في قيوده يوم الحديبية سنة ستٍّ عند كتب الصُّلح على وضع الحرب عشر سنين، ومن أتى من قريشٍ بغير إذن وليِّه ردَّه عليهم (وَلَوْ أَسْتَطِيعُ(1) أَنَّ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ صلعم ) إذ ردَّ أبا جندلٍ إلى قريشٍ لأجل الصُّلح (لَرَدَدْتُهُ) وقاتلتُ قريشًا قتالًا لا مزيد له، فكما توقَّفتُ يوم الحديبية من أجل أنِّي لا أخالف حكم رسول الله صلعم كذلك أتوقَّف اليوم؛ لأجل مصلحة المسلمين، وقد جاء عن عمر نحو قول(2) سهلٍ(3) ولفظه «اتقوا الرَّأي في دينكم» أخرجه البيهقيُّ في «المدخل» وأخرجه هو والطَّبرانيُّ مطوَّلًا بلفظ: «اتَّهموا الرَّأي على الدِّين، فلقد رأيتُني أردُّ أمر رسول الله صلعم برأيي اجتهادًا، فوالله ما آلوو عن الحقِّ، وذلك يوم أبي جندلٍ، حتَّى قال لي رسول الله صلعم : تراني أرضى وتأبى؟!» والحاصل _كما قال في «فتح الباري»_: أنَّ المصير إلى الرَّأي إنَّما يكون عند فقد النَّصِّ، وإلى هذا يومئ قولُ إمامنا الشَّافعيِّ فيما أخرجه البيهقيُّ بسندٍ صحيحٍ إلى أحمد ابن حنبلٍ: سمعتُ الشَّافعيَّ يقول: القياس عند الضَّرورة، ومع ذلك فليس القائل برأيه على ثقةٍ من أنَّه وقع على المراد من الحُكم في نفس الأمر، وإنَّما عليه بذل الوسع(4) في الاجتهاد ليؤجر ولو أخطأ، وبالله التَّوفيق. ولأبي ذرٍّ: ”ولو أستطيع أن أردَّ أمر رسول الله صلعم عليه(5) لرددته“ (وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا) في الله (إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا) بضمِّ التَّحتيَّة وسكون الفاء وكسر الظَّاء المعجمة: يوقعُنا في أمرٍ فظيعٍ، أي: شديدٍ في القبح (إِلَّا أَسْهَلْنَ) أي: السُّيوف ملتبسة(6) (بِنَا) بفتح الهمزة وسكون السِّين المهملة واللَّام بينهما هاءٌ مفتوحةٌ آخره نونٌ، أي: إلَّا أفضَيْنَ بنا، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”إلَّا أسهلن بها“ (إِلَى أَمْرٍ) سهلٍ (نَعْرِفُهُ) حالًا ومآلًا فأدخلتنا فيه (غَيْرَ هَذَا الأَمْرِ) الذي نحن فيه فإنَّه مُشكل حيث عَظُمت المصيبة بقتل‼ المسلمين وشِدَّة المعارضة من حجج الفريقين إذ حجَّة عليٍّ وأتباعه ما شُرِعَ من قتال أهل البغي حتَّى يرجعوا إلى الحقِّ، وحجَّة معاوية وأتباعه قَتْلُ عثمان ظلمًا، ووجود قَتَلَتِه بأعيانهم في العسكر العراقيِّ، فعظُمت الشُّبهة حتَّى اشتدَّ القتال، إلى أن وقع التَّحكيم فكان ما كان(7).
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: «اتَّهموا رأيكم على دينكم» ونَسَبَ اليومَ إلى أبي جندلٍ لا إلى الحديبية؛ لأنَّ ردَّه إلى المشركين كان شاقًّا على المسلمين، وكان ذلك أعظم ما جرى عليهم من سائر الأمور، وأرادوا القتال بسببه، وألَّا يردُّوا أبا جندلٍ، ولا يرضوا بالصُّلح، والحديث سبق في «كتاب الجزية» [خ¦3181].
          (قَالَ) الأعمش سليمان بالسَّند السَّابق: (وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة: (شَهِدْتُ) أي: حضرت وقعة (صِفِّينَ) بكسر الصَّاد المهملة والفاء المشدَّدة بعدها تحتيَّةٌ ساكنةٌ فنونٌ، لا ينصرف للعلميَّة والتَّأنيث: بقعة بين الشَّام والعراق، بشاطئ الفرات (وَبِئْسَتْ صِفُّونَ) بضمِّ الفاء بعدها واوٌ بدل الياء، أي: بئست المقاتلة التي وقعت فيها، وإعراب الواقع هنا كإعراب الجمع في نحو قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ}[المطففين:18] والمشهور إعرابه بالنُّون والتَّحتيَّةُ ثابتةٌ في أحواله الثَّلاثة، تقول: هذا صفِّينُ برفع النُّون، ورأيت صفِّينَ، ومررت بصفِّينَ بفتح النُّون فيهما، قال في «الفتح»: ولأبي ذرٍّ: ”شهدت صفِّين وبئست صفِّين“ بالتَّحتيَّة فيهما، ولغيره الثَّاني بالواو، وفي رواية النَّسفيِّ مثلُه، لكن قال: ”بئست الصَّفُّون“ بزيادة الألف واللَّام، وبعضهم فتح الصَّاد، والفاء مكسورةٌ مشدَّدةٌ اتِّفاقًا، والله أعلم.


[1] زيد في (د): «يوم الحديبية».
[2] زيد في (د): «أبي»، وليس بصحيحٍ.
[3] في نسخة (ج): «أبي سهل» وشطب على كلمة «أبي» وكتب على الهامش: كذا بخطِّه، ولعلَّه: «سَهْل».
[4] في (ع): «بذله للوسع».
[5] «عليه»: سقط من (د).
[6] في (س): «متلبِّسة».
[7] قوله: «فكان ما كان»: ليس في (د).