الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه

          ░7▒ (باب: يَمِيْن الرَّجُلِ لصَاحِبِه أنَّه أَخُوه)
          وقد صرَّح المصنِّف بجواب المسألة بقوله: (يذُبُّ عنهُ الظَّالم...) إلى آخره، والمسأَلَة خلافيَّة.
          قالَ الحافظُ: قالَ ابنُ بطَّالٍ: ذهب مالك والجمهور إلى أنَّ مَن أُكره على يمين إن لم يحلفها قُتل أخوه المسلم أنَّه لا حِنْث عليه، وقال الكوفيُّون: يَحْنَث، لأنَّه كان له أن يورِّيَ، فلمَّا ترك التَّورية صار قاصدًا لليمين فيحنث، وأجاب الجمهور بأنَّه إذا أُكره على اليمين فنيَّته مخالفة لقوله: (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ).
          وقوله: (فإن قاتل فلا قود عليه...) إلى آخره، قالَ ابنُ بطَّالٍ: اختلفوا فيمن قاتل عن رَجل خشي عليه أن يُقتَل، فقُتل دونه، هل يجب على الآخر قصاص أو دية؟ فقالت طائفة: لا يجب عليه شيء للحديث المذكور، ففيه: (وَلَاْ يُسْلِمُهُ) وفي الحديث الَّذِي بعده: (انْصُرْ أَخَاكَ) وبذلك قال عمر، وقالت طائفة: عليه القَوَد، وهو قول الكوفيِّين، وهو يشبه قول ابن القاسم وطائفة مِنَ المالكيَّة، وأجابوا عن الحديث بأنَّ فيه النَّدب إلى النَّصر، وليس فيه الإذنُ بالقتل. انتهى مِنَ «الفتح».
          قوله: (وإن قيل له: لتَشْرَبنَّ الخمر إلى قوله: وكل(1)(2) عقدة) هذه(3) ستَّة أشياءَ عديل واحد، وعديله الآخر قوله: (أو لنقتلنَّ أباك أو أخاك) وحاصلُه أن أُكرِه على هذه الأشياء، وهدَّده بقتل الأب أو الأخ في الإسلام، فهو مكرَه عند المصنِّف، قلنا: إنَّه ليس بإكراه، ولكنَّه باب آخر، فإنَّ حفظ دمِ امرئٍ مسلم واجب في كلِّ أوان. انتهى من «فيض الباري».
          وكتبَ الشَّيخ قُدِّس سِرُّه في «اللَّامع» في شرح ترجمة الباب: لا شكَّ في أنَّ الرَّجل إذا تعرَّض للقتل إلَّا أن يثبت عند المكرِه كونه أبًا لزيد أو خاله(4) أو غير ذلك مِنَ القربات والعلاقات، / وجب على زيد أن يتقوَّل بذلك صونًا لدمه، فأمَّا إذا أُكره عليه وقيل: لتشربنَّ الخمر أو لتقتلنَّ أخاك، فإنَّه لم يسعه عندنا الإقدام على شرب الخمر، ووجه ذلك أنَّ جواز أكل هذه المحرَّمات منوط بالاضطرار، ولا يتحقَّق بما ذُكر، نعم يتحقَّق الاضطرار إذا أُكرِه عليه بقتل نفسه، وأمَّا إذا أُكرِه بشيء مِنَ العقود المذكورة بعده بقوله: (لتبيعنَّ هذا العبد) فقيل له: إمَّا أن تبيع هذا أو لنقتلنَّ أباك، فإنَّه يبيعه، لأنَّ الأموال وقايةٌ للأنفس ومبذولة، فليس له أن يعرض المسلم على الهلاك وهو قرينة(5)، نعم يكون له خيار الفسخ بعد زوال الإكراه لكونه لم يقدم على هذا العقد بكمال رضاه، وأمَّا تفريقهم بين المحرم وغيره فلا يمكن الاعتراض بذلك عليهم، لأنَّ مدار جواز الحرام إنَّما هو الاضطرار لا غيرُ، ولا يتحقَّق الاضطرار بإخافته عن قتل الأجنبيِّ. انتهى.
          وبسط الكلام في توضيح هذا المقام في هامش «فيض الباري»، وفيه بعد بسط الكلام: إذا علمتَ هذا فاعلم أنَّ ملخَّص إيراد البخاريِّ في هذا الباب أمران: الأوَّل: تفريق الإمام الأعظم بين حكم الأقارب وبين الأجنبيِّ المسلم مع قَول النَّبيِّ صلعم: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ) والثَّاني: فرقه بين حكم شرب الخمر ونحو البيع. انتهى.
          قوله: (ثمَّ ناقض فقال: إن قيل له...) إلى آخره، قالَ العلَّامةُ القَسْطَلَّانيُّ في «شرحه»: أي: فاستحسن بطلان البيع ونحوه بعد أن قال: يلزمه في القياس، ولا يجوز له القياس فيها، وأجاب العينيُّ بأنَّ المناقضة ممنوعة، لأنَّ المجتهد يجوز [له] أن يخالف قياس قوله بالاستحسان، والاستحسان حجَّة عند الحنفيَّة. انتهى.
          قالَ العلَّامةُ السِّنْديُّ: مبنى كلامهم أنَّ الإكراه في كلِّ شيءٍ على حسبه، وهذا شيء يشهد به بداهة العقل، فتخليصُ القاتلِ عن المعصية والمقتولِ عن القتل لا يكون إكراهًا لغيرهما على المعصية، فإذا قال قائل: اعصِ الله وإلَّا فأعصيه أنا، فلا ينبغي له أن يعصيه، ولا يعدُّ ذلك إكراهًا له على المعصية، نعم يكون إكراهًا على نحو البيع والهبة إذا كان المقتول أبًا ونحوه مثلًا، والحاصل أنَّه لا ينبغي اعتبار كلِّ أذًى إكراهًا في كلِّ شيءٍ، فمثلُ الكفر لا يباحُ لخوف لطمةٍ بيد، وتركُ الأَولى يُعذَر فيه بذلك، وحيث اعتبرنا الفرق يتَّضح كلام الحنفيَّة، والله تعالى أعلم. انتهى.
          وفي «هامش اللَّامع»: عن «تقرير المكِّيِّ»: اعلم أنَّ تحقُّق الإكراه في الجملة إنَّما هو في حقِّ ذي رَحمٍ محرَم، أمَّا في حقِّ الأجنبيِّ فلا إكراه أصلًا، فلو باع عبده في حقِّ ذي رحِمٍ محرَمٍ ينعقد بيعه موقوفًا_كما هو الحكم عندنا في بيع المكره_ لتحقُّق الإكراه في الجملة، ولو باعه في حقِّ أجنبيٍّ ينعقد بيعه لازمًا لعدم الإكراه، فلهذا قال البخاريُّ: (وفرَّقوا بين كلِّ ذي رحِم محرم وبين غيره مِنْ غير كتابٍ ولا سُنَّة) قلنا: السُّنَّة موجودة، وهي قوله ◙: ((الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ)). انتهى.
          وفي القَسْطَلَّانيِّ: وأجاب العينيُّ بأنَّ الاستحسان غير خارج عن الكتاب والسُّنَّة، أمَّا الكتاب فقوله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18]. وأمَّا السُّنَّة فقوله صلعم: ((مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ [حسن] عِنْدَ اللهِ)). انتهى.
          قوله: (وقالَ النَّبيُّ ╕...) إلى آخره، هذا استدلال مِنَ المصنِّف على عدم الفرق بين ذي رحم وغيره، قلنا: إطلاق الأخت هاهنا بطريق المجاز لا بطريق عدم الفرق. انتهى مِنْ «تقرير المكِّيِّ».
          والحاصل عندَ هذا العبدِ الضَّعيفِ: أنَّ الإمام ☼ ذهب إلى تحقُّق الإكراه في تلك الأمور كلِّها، والحنفيَّة فرَّقوا بين شرب الخمر ونحوه، وبين العقود كالبيع والهِبة، فلم يجوِّزوا النَّوع الأوَّل مطلقًا سواءٌ كان التَّهديد بقتل ذي رحِم أو غيره، لأنَّ هذه الأمور_أي شرب الخمر ونحوه_ معصية بنفسها، فلا يجوز فعلُها إلَّا إذا تحقَّق الإكراه والإلجاء، ولا يتحقَّق الإلجاء إلَّا بقتل نفسه، فهذا هو الجواب عن أحد الإيرادين. وأمَّا النَّوع الثَّاني_أعني البيع والهبة ونحوهما_ فقلنا بتحقُّق الإكراه فيهما في الجملة، أي: فيما إذا كان التَّهديد بقتل ذي الرَّحم لعدم وجود المعصية في هذه الأمور لكونها مباحةً في نفسها، فينبغي له حينئذٍ أن يفعل وله الخيار بعد زوال الإكراه بحكم الاستحسان، / كما هو حكم بيع المكره عندنا، وأمَّا إذا كان التَّهديد بقتل الأجنبيِّ فباع فلا يجوز له فسخُ هذا البيع بعد زوال الإكراه، بل هو بيعٌ باتٌّ لوجود الرِّضا، وذلك لأنَّ الإكراه لا يتحقَّق بقتل الأجنبيِّ، فليس له حكمُ بيع المكرَه، وهذا هو منشأ تفريقنا بين الأجنبيِّ وغيره، فالإيراد الثَّاني مِنَ البخاريِّ أيضًا ساقط، فتدبَّرْ.
          ثمَّ لا يَخفى عليك أنَّهم يوردون على الإمام أبي حنيفة أنَّه يُكثِر مِنَ الاستحسان، وصار إكثاره مِنَ الاستحسان مثار طعن الَّذِين ينتقصون قدره، ويبخسون(6) حظَّه مِنَ الفِقه والتُّقى، فإنَّهم لم يجدوا في القياس ما يُعتبر خروجًا على النُّصوص مِنْ كلِّ الوجوه، لأنَّه حملٌ على النَّصِّ، ووجدوا في الاستحسان ذلك إذا لم يقم على النَّصِّ، ولقد قال صاحب «كشف الأسرار» في تعليقه على باب الاستحسان الَّذِي كتبه فخر الإسلام البَزْدَويُّ ما نصُّه: اعلم أنَّ بعض القادحين في المسلمين طعن على أبي حنيفة وأصحابه ♥ في تركهم القياس بالاستحسان، وقال: حُجج الشَّرع الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس، والاستحسان قسم خاصٌّ لم يَعرف أحدٌ مِنْ حَمَلَة الشَّرع سِوى أبي حنيفة وأصحابه أنَّه مِنْ دلائل الشَّرع لم يقم عليه دليلٌ، بل هو قول بالتَّشهِّي، فكان تركُ القياس به تركًا للحجَّة لاتِّباع الهوى فكان باطلًا، وكلُّ ذلك طعنٌ مِنْ غير رويَّةٍ وقدحٌ مِنْ غير وقوفٍ على المراد، فأبو حنيفة أجلُّ قدرًا وأشدُّ ورعًا مِنْ أن يقول في الدِّين بالتَّشهِّي، أو يعمل بما استحسنه مِنْ غير دليل قام عليه شرعًا، فالشَّيخ ☼ عقد الباب لبيان المراد مِنْ هذا اللَّفظ، والكشف عن حقيقته دفعًا لهذا الطَّعن. انتهى.
          ولقد اختَلف العلماء في عصر أبي حنيفة ومَنْ بعدَه في الاستحسان، فمالكٌ الَّذِي عاصر أبا حنيفة كان يقول: الاستحسان تسعة أعشار العِلم، وأمَّا الشَّافعيُّ ☼ الَّذِي جاء مِنْ بعدهما فقد عقد فصلًا في كتاب «الأمِّ» سمَّاه: كتاب إبطال الاستحسان، وساق الأدلَّة لإثبات بطلانه، ولقد اختلف الفقهاء في تعريف الاستحسان الَّذِي كان [يأخذ] به أبو حنيفة وأصحابه، فعرَّفه بعضهم بأنَّه العدول عن موجب القياس إلى قياس أقوى منه، وهذا تعريفٌ غير جامعٍ لكلِّ أنواع الاستحسان، فمنها ما لا يكون العدول فيه إلى قياس، بل إلى نصٍّ، أو إلى الإجماع، وأحسنُ التَّعاريف هو ما قاله الحسن الكَرْخيُّ: وهو أن يعدل المجتهد عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حَكم به في نظائرها لوجهٍ أقوى يقتضي العدول عن الأوَّل. انتهى مقتبسًا مِنْ مقدِّمة «البدائع» لناشره زكريا عليٍّ يوسف.
          ثمَّ براعة الاختتام في قوله: (يَحْجُزُه عنِ الظُّلْمِ، فإنَّ الظُّلم ظُلُمَات يومَ القِيَامَة)كَمَا وَرَد في الحديث.


[1] في (المطبوع): ((إلى قوله: أو تحل)).
[2] كذا في الأصل وفي الصَّحيح وسائر الشُّروح: وتحل
[3] في (المطبوع): ((هذا)).
[4] في (المطبوع): ((أباً لزيد أو أخاً له)).
[5] في (المطبوع): ((قريبه)).
[6] في (المطبوع): ((وينجسون)).