الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب: في بيع المكره ونحوه في الحق وغيره

          ░2▒ (باب: في بَيْعِ المُكْرَه ونَحْوِه فِي الحَقِّ وغَيْرِه)
          قالَ الحافظُ: قالَ الخطَّابيُّ: استدلَّ البخاريُّ بحديث الباب على جواز بيع المكرَهِ، والحديث ببيع المضطرِّ أشبَهُ، فإنَّ المكره على البيع هو الَّذِي يُحمل على بيع الشَّيء شاء أو أبى، واليهود لو لم يبيعوا أرضهم لم يُلزَموا بذلك، ولكنَّهم شحُّوا على أموالهم، فاختاروا بيعها، فصاروا كأنَّهم اضطرُّوا إلى بيعها، كمَنْ رَهِقَه دَينٌ فاضطُرَّ إلى بيع ماله، فيكون جائزًا، ولو أُكْره(1) عليه لم يجز. قلت: لم يقتصر البخاريُّ في التَّرجمة على المكرَهِ، وإنَّما قال: (بَيْعِ المُكْرَهِ وَنَحْوِهِ)، فدخل في ترجمته المضطرُّ، وكأنَّه أشار إلى الرَّدِّ على مَن لا يُصَحِّح بيع المضطرِّ. انتهى مِنَ «الفتح».
          وفي «الفيض»: قوله: (ونَحْوِهِ) فَسَّرَهُ العَيْنِي بالمُضْطَرِ ليَعُمَّ الإِكْرَاهَ الفِقَهي وغيره، كالبيع في أيَّام القَحْطِ، فإِنَّ النَّاس يَتبايَعُونَ فيها بالغَبْنِ الفَاحِشْ، ولا يُسمَّى ذلك إِكْرَاهًا فِقْهيًّا، فهو إِذَن بيعُ المُضْطرِّ. انتهى.
          وهذا البحث متعلِّق بالجزء الأوَّل مِنَ التَّرجمةِ أعني: قوله: (المكره ونحوه) وأمَّا ما يتعلَّق بالجزء الثَّاني وهو قوله: (في الحقِّ وغيره) فقالَ الحافظُ: قالَ ابنُ المنيِّر: ترجم بالحق وغيره، ولم يذكر إلَّا الشِّقَّ الأوَّل، ويجاب بأنَّ مراده بالحقِّ الدَّينُ، وبغيره ما عداه ممَّا يكون بيعُه لازمًا، لأنَّ اليهود أُكْرِهوا على بيع أموالهم لا لدَينٍ عليهم. انتهى. كذا قال.
          ويَرِدُ عليه أنَّه على هذا ينعكس الإيراد، لأنَّه يثبت على هذا الشِّقُّ الثَّاني مِنَ التَّرجمةِ / دون الأوَّل، ثمَّ قالَ الحافظُ: قلت: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: (وغيره) الدَّين، فيكون مِنَ الخاصِّ بعد العامِّ، وإذا صحَّ البيع في الصُّورة المذكورة وهو سببٌ غير ماليٍّ فالبيع في الدَّين وهو سببٌ ماليٌّ أَولى. انتهى. هذا ما قاله الشُّرَّاح في شرح هذه التَّرجمة.
          وكتبَ الشَّيخ قُدِّس سِرُّه في «اللَّامع» ممَّا يتعلَّق بالجزء الثَّاني مِنْ جزأي التَّرجمة حيث قال: أمَّا(2) أن يراد بالحقِّ الحقُّ الماليُّ، أي: الدَّين ومثلُه، فالمعنى: هذا بيانُ بيعِ المكرَهِ مملوكَه في أداء حقِّ الدَّائن وغيره مِنْ ذوي الحقوق، أو الحقُّ هاهنا هو الحقُّ مقابلُ الباطل، أي: هذا بيان بيع المكره مملوكَه في ما هو موافق للشَّريعة، ولا يكون باطلًا، والتَّرجمة ثابتة بكلا معنييها بقوله: (فَمَن وَجَد(3) بِمَالِه فَلْيَبِعْه) فإنَّ بيعهم هذا كان بحقٍّ، وأمَّا إثبات الجزء الثَّاني مِنْ جزأي التَّرجمة فبقوله: (إنَّما الأَرْضُ لله ورَسُوله) فإنَّهم لو قصدوا بيع شيء مِنَ الأراضي كان بيعًا بغير الحقِّ، وفي الباطل، والله وليُّ التَّوفيق. انتهى.
          ولله درُّ الشَّيخ قُدِّس سِرُّه! فإنَّه قد استوفى حقَّ التَّرجمة شرحًا، وأيضًا(4) بعبارة موجَزة مفصِحة، وهذا المعنى الثَّاني ملحق(5) اختاره صاحب «الفيض» أيضًا، وفيه: كما أنَّ النَّبيَّ صلعم أكره اليهود على الجلاء، وكان على الحقِّ في ذلك، ثمَّ قالَ: وليس هذا إكراهًا فقهًا، فإنَّه تحقَّق لو كان النَّبيُّ صلعم هدَّدَهم بقتلِ [أنفسِهم] أو بقطع عضوهم، وإذ ليس فليس. انتهى.
          ثمَّ مسألة الباب_أعني بيع المكره_ خلافيَّة، وقد تقدَّم عن الحافظ أنَّ ميل المصنِّف إلى جوازه، واختلفت الأئمَّة في ذلك كما في فروعهم، فمذهب الحنفيَّة ما قالَ ابنُ عابدين: قدَّمْنا أنَّ بيع المكرَهِ فاسدٌ موقوفٌ على إجازة البائع، وقول صاحب «الكنز»: البيع مبادلة المال بالمال بالتَّراضي؛ غيرُ مرضيٍّ، لأنَّه يخرج بيع المكره... إلى آخر ما بسط. وفي «البدائع»: لا يصحُّ بيع المكره إذا باع مكرَهًا، لعدم الرِّضا، فأمَّا إذا باع مكرَهًا وسلَّم طائعًا فالبيع صحيح. انتهى.
          ومذهب الشَّافعيِّة ما في «شرح الإقناع»: ويُشترط أيضًا عدم إكراه بغير حقٍّ، فلا يصحُّ عقد مكره في ماله بغير(6) حقٍّ لعدم رضاه، ويصحُّ بحقٍّ كأنْ توجَّهَ عليه بيعُ ماله لوفاء دَين، فأكرهه الحاكمُ عليه. انتهى.
          وكذا عند الحنابلة بيعُ المكرَه باطل، ففي «نيل المآرب»: وشروطه سبعة: أحدها: الرِّضا(7) به مِنَ المتبايعين، فلا يصحُّ بيع المكرَه بغير حقٍّ كالَّذِي يستولي على مِلك رَجل بلا حقٍّ فيطلبه، فيجحده إيَّاه حَتَّى يبيعه، أمَّا إن أكره بحقٍّ كالَّذِي يُكرِهُه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه فبيعُه صحيح. انتهى.
          ومذهب المالكيَّة كما في «مختصر الخليل» و«شرحه»: لا إن أُجْبِر عليه جَبْرًا حرامًا، وهو ما ليس بحقٍّ، فيصحُّ ولا يلزم، قال شارحه: وأمَّا لو أجبر على البيع جبرًا حلالًا كان البيع لازمًا كجبره على بيع الدَّار بتوسعة المسجد أو الطَّريق أو لوفاء دَين... إلى آخر ما بسط. وفي «الميزان» للشَّعْرانيِّ: ومِنْ ذلك قول الأئمَّة الثَّلاثة: إنَّه لا يصحُّ بيعُ المكرَه مع قول أبي حنيفة بصحَّته. انتهى.
          قلت: والتَّحقيق أنَّ بيع المكرَه باطل عند الجمهور، وأمَّا عندنا الحنفيَّة ففاسد موقوف على إجازة البائع، وهم لا يفرِّقون بين الباطل والفاسد بخلاف الحنفيَّة، فعندنا فرق بين الباطل والفاسد، كما تقرَّر في محلِّه. وأفاد صاحب «الفيض» أنَّ بيع المكره موقوف عندنا بخلاف الطَّلاق، لأنَّه مِنَ الإسقاطات، والبيع مِنَ الإثباتات، فيتوقَّف. انتهى.
          وأمَّا بيع المضطرِّ كما أشار إليه المصنِّف بقوله: (ونحوه) فنقل شيخُنا في «البذل» عن «الدُّرِّ المختار» أنَّ بيع المضطرِّ وشراءه فاسد، قال الشَّاميُّ: هو أن يُضطرَّ الرَّجل إلى طعام أو شراب أو غيرهما، ولا يبيعه(8) البائع إلَّا بأكثر مِنْ ثمنها بكثير، وكذلك في الشِّراء منه. انتهى.
          وفيه أيضًا عن الخطَّابيِّ أنَّ بيع المضطرِّ جائزٌ، أي: عند الشَّافعيِّ، لكنَّه مكروه، بل ينبغي أن يُعَان ويُقْرَض ويُسْتَمْهَل له إلى الميسرة. انتهى. /


[1] في (المطبوع): ((أكرهه)).
[2] في (المطبوع): ((إما)).
[3] في (المطبوع): ((وجده)).
[4] في (المطبوع): ((وإيضاحاً)).
[5] في (المطبوع): ((للحق)).
[6] في (المطبوع): ((لغير)).
[7] في (المطبوع): ((الرضاء)).
[8] في (المطبوع): ((ولايبيعها)).