التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

باب: الحرب خدعة

          ░157▒ (بَابٌ: الحَرْبُ خَدْعَةٌ)
          أي: خداع، وهو في الحرب مباح، وإن كان محظورًا في غيرها من الأمور.وفي (خَدْعَةٌ) أربع لغات، أحدها لغة رسول الله صلعم ، وهي _فتح الخاء المعجمة وإسكان الدَّال المهملة_ والثانية _ضم الخاء مع إسكان الدَّال_ والثالثة: خَدَعَة _بفتحهما_ والرابعة: _بضمِّ الخاء وفتح الدَّال_ والأصيلي ضبطها بالثَّاني، ويونس بالرابع، وفي باب المفتوح أوَّله من الأسماء من «فصيح ثعلب»: خدعة هي أفصح اللغات، ذُكِرَ لي أنَّها لغة سيدنا رسول الله صلعم .وحكى الأزهريُّ الأخيرة عن الكسائيِّ وأبي زيد قال: وهي أجود اللُّغات الثَّلاث.وقال القاضي في «المشارق»: أَنْ _فتح الخاء وسكون الدَّال_ لأبي ذرٍّ، وأكثر رواة «الصَّحيحين» قال: وقال أبو ذرٍّ: لغة النَّبيِّ صلعم خَدعَةٌ بالفتح، وبه قال الأصمعيُّ وغيره، قال: وحكى يونس فيها الوجهين، ووجهًا بالياء، وهو _ضم الخاء وفتح الدَّال_ / ولغة رابعة بفتحهما.
          والمعنى أنَّ أمرها ينقضي بمرَّة واحدة يخدع بها المخدوع، فَتَزِلُّ قدمه ولا يجد لها تلافيًا ولا إقالة، فكأنَّه نبَّه على أخذ الحذر من مثل ذلك.ومن ضمَّ الخاء وسكَّن الدَّال، فمعناه أنَّها تخدع يعني أهلها ومباشرتها، ومن ضمَّ الخاء وفتح الدَّال نسب الفعل إليها، أي: يُخدع من اطمأنَّ إليها تمنِّيهم الظَّفر، ولا نهي لهم به كالضِّحكة إذا كان يضحك بالنَّاس، وأنَّ أهلها يُخدَعُونَ فيها، ومن فتحها جميعًا كان جمع خادع، يعني أنَّ أهلها بهذه الصِّفة فلا يطمئنُّ إليهم، وأصل الخدع إظهار أمر وإضمار خلافه، فإنَّ الخادع يُفسِدُ تدبير المخدوع ونقل رأيه، وحكى مكيٌّ لغة خامسة خِدْعة، _بكسر الخاء وسكون الدَّال_ وحكاها ابن قتيبة عن يونس، قال المطرزي: والأفصح الفتح لأنَّها لغة قريش، واعترضه ابن درسْتويه فقال: ليست بلغة قوم دون قوم، وإنَّما هي كلام الجميع لأنَّها المرَّة الواحدة من الخداع، فلذلك فُتِحَتْ.
          وإنَّما اختار سيدنا رسول الله صلعم هذه الكلمة وكان يستعملها كثيرًا لأنَّها بلفظها الوجيز تُعطِي معنى الشَّيئين الأخيرين، ومعناها: استعمل الحيلة في الحرب ما أمكنك، فإذا أعيَتْك الحيل فقاتل، فكانت هذه اللُّغة مختصرة اللَّفظ كثيرة المعنى، فلذلك كان ◙ يختارها، قال بعض أهل السِّير: إنَّ النَّبيَّ صلعم قال ذلك يوم الأحزاب، لما بعث نعيم بن مسعود ليخذِّل بين قريش وغطفان ويهود، ومعناه أنَّ المماكرة في الحرب أنفع من المكاثرة والإقدام على غير علم.
          قال الدَّاودي: ومن ذلك أنَّه صلعم كان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها.قال ابن العربي: الخديعة في الحرب تكون بالتوراه وتكون بالكمين وتكون بخلف الوعد، وذلك من المعنى الجائز المخصوص من المحرَّم، والكذب حرام بالإجماع جائز في بعض المواطن بالإجماع، أصله الحرب.قلت: وواجبٌ في بعض المواطن، وهو إذا كان فيه عصمة نبيٍّ ممَّن يُريْدُ القتل به، والله أعلم.
          قال الطبريُّ: وإنَّما يجوز من الكذب في الحرب ما يجوز في غيرها من التَّعريض مما ينحى به نحو الصِّدق، وما يحتمل للمعنى الَّذي فيه الخديعة للعدو لإنفاذ القصد إلى الشَّيء بخلاف ما هو عَلَيْه، قال المهلَّب: مثل أن يقول للمبارز له: أنحلَّ حزام سرجك؛ ليُشغِلَه عن الاحتراس منه، فيجد فرصة في ضربه، وهو يريد أنَّ حزام سرجك قد انحلَّ فيما مضى من الزَّمان، أو يخبره بموت أميره، وهو يريد موت المنام أو الدين، فلا يكون قصده الإخبار عن الشَّيء بخلاف ما هو عَلَيْه البتَّة، لأنَّ ذلك حرام.قال النَّووي: والظَّاهر إباحة حقيقة الكذب، ولكن الاقتصار على التَّعريض أفضل.