التلقيح لفهم قارئ الصحيح

باب كسوة الكعبة

          قوله: (بَابُ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ): ذكر فيه حديث شيبة عن عمر ☻: «لقد هممتُ ألَّا أدعَ فيها صفراءَ ولا بيضاءَ إلَّا قسمتُه بين المسلمين...» الحديث، قال ابن المُنَيِّر: (يحتمل أن يكون مقصودُه بالتَّرجمة التَّنبيهَ على أنَّ كسوةَ الكعبةِ مشروعةٌ ومأثورةٌ، فيحتجُّ لذلك بأنَّها لم تزل تقصد بالمال يُوضَع فيها على معنى الزِّينة والجمال؛ إعظامًا لحرمتها في الجاهليَّة والإسلام، فالكسوة من هذا القبيل، ويحتمل أن يريدَ التنبيهَ على حُكم الكسوة، وهل يجوز التَّصرُّف فيما عُتِق من الكسوة بالقسمة كما يصنعونه / أم لا؟ فنبَّه على أنَّه موضعُ اجتهادٍ، وأنَّ مُقتضَى رأيِ عمرَ ☺ أن يقسم في المصالح، ويعارِض رأيُه تركَ النَّبيِّ صلعم وأبي بكر لقسمتها، فذلك مَحلُّ اجتهاد وتعارض الأمارات، والظَّاهر جواز قسمة الكسوة العتيقة، إذ بقاؤها تعريضٌ لإتلافها، بخلاف النَّقدين، إذ لا جمال في كسوة مطويَّة عتيقة، ويُؤخَذ من قول عمر ☺ أنَّ صرفَ المال في المصالح كالفقراء والمساكين آكدُ من صرفه في كسوة الكعبة، لكنَّ الكسوة في هذه الأزمنة أهمُّ، إذ الأمور المُتقادمة تتأكَّد حرمتها في النُّفوس، وقد صار تركُ الكسوة في العرف غضًّا في الإسلام، وإضعافًا لقلوب المسلمين، فترجَّحت(1) على الصَّدقة بمثل قيمتها، والله أعلم)، انتهى.
          وقال شيخُنا الشَّارحُ: (ولك أن تقول: لعلَّ البخاريَّ أراد أصلَ الحديث على عادته في الاستنباط، وهو قوله: عند ابن ماجه: «مال الكعبة»)، يشير بذلك إلى حديث أبي وائل قال: (بعث رجلٌ معي بدراهم هديَّةً إلى البيت، فدخلتُ البيتَ وشيبةُ جالسٌ على كرسيٍّ، فناولتُه إيَّاها، فقال: ألك هذه؟ قلت: لا، ولو كانت لي، لم آتِكَ بها، قال: أمَا لئنْ قلت ذاك، لقد جلس عمرُ ☺ مجلسَك الذي أنت فيه، وقال: لا أخرجُ حتَّى أقسِم مالَ الكعبة...) الحديث، قال شيخنا: (وهي _أي(2): الكسوة_ داخلة فيه، يؤيِّده قوله ╕: «وهل لك من مالك إلَّا ما لبست(3) فأبليت؟»، فجعل اللِّبس _وهو الكسوة_ مالًا)، انتهى.
          وأمَّا ما قاله الشَّافعيَّة في كسوة الكعبة؛ فقال أبو الفضل بن عبدان: (لا يجوز قطع شيء من سترة الكعبة، ولا نقلُه، ولا بيعُه، ولا شراؤُه، ولا وضعه بين أوراق المصحف، ومن حمل شيئًا من ذلك؛ لزمه ردُّه، خلاف ما يتوهَّمه العامَّة يشترونه من بني شيبة)، وحكى هذا الرَّافعيُّ عنه، ولم يعترضه(4)، وكذا قال الحليميُّ، ولفظه: (لا ينبغي أن يُؤخَذ من كسوة الكعبة شيء)، انتهى، وقال ابن القاصِّ: لا يجوز بيع كسوة الكعبة، وقال أبو عمرو بن الصَّلاح: (الأمر فيها إلى الإمام؛ يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعًا وعطاءً)، واحتجَّ بما رواه الأزرقيُّ في «تاريخ مكَّة»: (أنَّ عمر بن الخطَّاب ☺ كان ينزع كسوة الكعبة كلَّ سنة، فيقسمها على الحاجِّ)، قال النَّوويُّ: (وهذا الذي قال الشَّيخ حسنٌ، وقد روى الأزرقيُّ عن ابن عبَّاس(5)، وعائشة ♥ أنَّهما قالا: تُباع كسوتها، ويُجعَل ثمنها في سبيل الله والمساكين وابن السَّبيل، قال ابن عبَّاس وعائشة وأمُّ سلمة: «ولا بأس أن يَلبَس(6) كسوتها من صارت إليه من حائض وجنب، وغيرهما»)، انتهى.
          تنبيهٌ: أوَّلُ من كسا الكعبة _كما قاله الأزرقيُّ_: قال ابن جريج: كان تُبَّع أوَّلَ من كساها كسوة كاملة، أُرِيَ في المنام أن يكسوها، فكساها الأنطاع، ثمَّ أُرِيَ أن يكسوها، [فكساها] الوصائل؛ وهي ثياب حبر من عصب اليمن، ثمَّ كساها النَّاس بعده في الجاهليَّة، ثمَّ روى الأزرقيُّ رواياتٍ متفرِّقةً حاصلُها: أنَّه ╕ كساها، ثمَّ كساها أبو بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، وابن الزُّبير، ومَنْ بعدهم، وأنَّ عمر كان يكسوها من بيت المال، فيكسوها القباطيَّ، وكساها ابن الزُّبير ومعاوية الدِّيباج، وكانت تُكسَى يوم عاشوراء، ثمَّ صار معاوية يكسوها مرَّتين، ثمَّ كان المأمون يكسوها ثلاث مرَّات؛ فيكسوها الدِّيباج الأحمر يوم التروية، والقباطيَّ يوم هلال رجب، والدِّيباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان، وهذا الأبيض ابتدأه المأمون سنة ستٍّ ومئتين حين قالوا له: الدَّيباج الأحمر يتخرَّق قبل الكسوة الثانية، فسأل عن أحسن ما تكون فيه الكعبة، فقالوا له: الدِّيباج الأبيض، ففعله.
          تنبيهٌ ثانٍ: أوَّل مَن زيَّنها بالذَّهب الوليد بن عبد الملك(7)، بعث عبد الملك إلى واليه على مكَّة خالد بن عبد الله القسريَّ بستَّة وثلاثين ألف دينار، وضرب منها على باب الكعبة صفائح الذَّهب، وعلى ميزاب الكعبة، وعلى الأساطين التي في بطنها، وعلى الأركان في جوفها، فكلُّ ما على الميزاب والأركان من الذَّهب؛ فهو من عمل الوليد، وهو أوَّل من ذهَّبَ البيتَ في الإسلام، وأمَّا ما كان على الباب من الذَّهب من عمل الوليد، فرُفِع ذلك إلى أمير المؤمنين مُحَمَّد بن الرَّشيد في خلافته، فأرسل إلى سالم بن الجرَّاح عاملِه على صوافي مكَّة بثمانية عشر ألف دينار، ليضرب منها صفائح الذَّهب على باب الكعبة، فقلع ما كان على الباب من الصفائح، وزاد عليها ثمانيةَ عشرَ ألف دينار، فضرب عليها الصَّفائح التي هي اليوم، والمسامير، وحلقتي الباب، والعتب، فالذي على الباب من الذهب ثلاثة وثلاثون ألف مثقال، وعمل الوليد بن عبد الملك الرخام الأخضر والأبيض والأحمر في بطنها مؤزرًا به جدرانها، وفرشها بالرخام، فجميع ما في الكعبة هو من عمل الوليد بن عبد الملك، وهو أوَّل من فرشها بالرخام وأزَّر به جدرانها، وهو أوَّل من زخرف المساجد.
          مسألةٌ: تحليةُ الكعبةِ وسائرِ المساجد بالذَّهب والفضَّة، واتخاذُ قناديلها من الذَّهب والفضَّة فيه وجهان في مذهب الشَّافعيِّ؛ أصحُّهما: التَّحريمُ، وأمَّا ستر الكعبة بالحرير، فأجمعوا عليه، انتهى.
          وقال السُّهيليُّ: (قال الماورديُّ: «أوَّلُ مَن كسا البيتَ الدِّيباجَ(8) خالدُ بن جعفر بن كلاب»...، ونُتَيلة)، قال السُّهَيليُّ: (بتاء منقوطة باثنتين، وهي تصغير «نَتْلة»، واحدةُ «النَّتل»؛ وهي بيض النَّعام، وبعضهم يُصحِّفها بثاء مثلَّثة)، وهي أمُّ العبَّاس وأخيه ضرار ابني عبد المُطَّلب، وقال في أوائل «روضه»: (قال ابن إسحاق في غير هذا الموضع: أوَّلُ مَن كسا الكعبةَ الدِّيباجَ الحجَّاجُ، وذكر جماعةٌ سواه _منهم: الدَّارقطنيُّ_: أنَّها نتيلة بنت جناب أمُّ العبَّاس، وقال الزُّبير: بل أوَّل مَن كساها الدِّيباج عبدُ الله بن الزُّبير)، انتهى ملخَّصًا.


[1] في (ج): (فرجحت).
[2] في (ج): (أن).
[3] في (ب): (اكتسيت).
[4] (ولم يعترضه): ليس في (ب)، انظر «الشرح الكبير» ░3/521▒.
[5] زيد في (ب): (☻)، وضرب عليها في (أ) و(ج).
[6] في (ب): (يلتمس).
[7] زيد في (ب): (بن مروان).
[8] في (ب): (بالديباج).