التوضيح لشرح الجامع البخاري

حديث ابن عمر: صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح

          ذَكَرَ فيه أربعةَ أحاديثَ:
          990- 991- أحدُها: حديثُ نافعٍ وعبدِ الله بن دِينارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلعم عَنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ◙: (صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) الحديث.
          وَعَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ عُمَرَ: (كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ فِي الوِتْرِ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ).
          الشَّرْحُ: هذا الحديثُ أخرجه مسلمٌ وباقي الجماعةِ. قال التِّرمِذِيُّ: وفي البابِ عن عائشةَ وجابرٍ والفضلِ بنِ عبَّاسٍ وأبي أيُّوبَ وابنِ عَبَّاسٍ، وحديثُ ابنُ عمَرَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، ورواهُ عن ابنِ عمَرَ جماعاتٌ منهُم محمَّدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ بنِ ثَوبَانَ، وفي روايتِه: (صَلاَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ مَثْنَى مَثْنَى). وقال الدَّارَقُطْنيُّ: هو غيرُ محفوظٌ وإنَّما نعرِفُ صلاةَ النَّهارِ، وقدْ خالَفَهُ نافعٌ وهو أحفَظُ منه، وساقَ بسنَدِه إلى الثَّورِيِّ عن عُبيدِ الله بن عمَرَ عن نافعٍ عن ابنِ عمَرَ مرفوعًا: ((صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، وَصَلاةُ النَّهارِ أربعًا)) وسَاقَ بسنَدِه إلى يَحيى بن سعيدٍ عن عُبيدِ الله عن نافعٍ عن ابن عمَرَ أنَّه كانَ يُصلِّي باللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى ويُصلِّي بالنَّهارِ أربعًا.
          ورواهُ عن نافعٍ خَلْقٌ مِنهم بُكَير بن الأشجِّ وفي روايتِه: ((صَلاَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهار مَثْنَى مَثْنَى)) قالَه الدَّارَقُطنيُّ ثُمَّ ذَكَر فيه اختلافًا ثمَّ قال: والمحفوظُ عن ابنِ عمَرَ: (صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) وكَانَ ابنُ عُمَرَ يُصَلِّي بالنَّهارِ أرْبعًا.
          إذا تَقرَّر ذلكَ فالكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          أحدُها: هذا الرَّجُلُ جاءَ أنَّهُ مِن أهْلِ الباديةِ، ولمْ أرَهُ مُسمًّى، والمرادُ صلاةُ اللَّيلِ وأفضَلُهُ آخِرُهُ، وأمَّا النَّهارُ فأفضَلُ أوقاتِه الهاجِرَةُ. قال مالكٌ: إنَّما كانتْ عبادَتُهم آخرَ اللَّيلِ والهاجرةَ والوَرَعَ والفِطْرَةَ.
          قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (مَثْنَى مَثْنَى) كلامٌ خَرَجَ على جوابِ السَّائِلِ كأنَّه قال له: يا رسولَ الله، كيفَ نُصَلِّي باللَّيلِ؟ فقال: (مَثْنَى مَثْنَى) ولَوْ قالَ له: بالنَّهارِ جازَ أنْ يقولَ له كذلكَ وجائزٌ أن يقولَ بخلافِه، فصلاةُ النَّهارِ موقوفةٌ على دلائلِها، ومِن الدَّليلِ على أنَّها وصلاةُ اللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى جميعًا أنَّه قد رُوِيَ عنه صلعم أنَّه قال: ((الصَّلاةُ مَثْنَى مَثْنَى يَتَشهَّدُ في كُلِّ رَكْعَتَين)) لمْ يَخُصَّ ليلًا مِن نهارٍ، وإنكان حديثًا لا يقومُ بإسنادِهِ حُجَّةٌ فالنَّظَرُ يعضُدُه والأصُولُ توافِقُهُ.
          وأَورَدَ هذا الحديثَ مِن «كتابِ أبي داودَ» عن عبدِ الله بن الحارثِ عن المطَّلِب، وذَكَرَ أنَّ اللَّيثَ خالفَ شُعبةَ في هذا الحديثِ. ثُمَّ أَوْرَدَ حديثَ ابنَ عمَرَ مرفوعًا: ((صَلاَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهار مَثْنَى مَثْنَى)) وفي روايةٍ: ((رَكْعَتَيْنِ)) وَذَكَرَ أنَّ في «الموطَّأ» أنَّه بَلَغَهُ أنَّ ابنَ عُمَرَ كان يقول مثلَ ذلكَ يُسلِّمُ مِن كُلِّ رَكعتَينِ، وقال: فهذِهِ فُتْيَا ابنِ عمَرَ، وقد رُوِيَ مرفوعًا: (صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) وعُلِمَ مخرَجُهُ وفُهِمَ مرادُه، وحديثُ مالكٍ هذا وإنْ كانَ مِن بلاغاتِه / فإنَّهُ مُتَّصلٌ عن ابنِ عُمَرَ. ثُمَّ ساقَهُ بإسنادِه وقالَ في آخِرِه: يعني التَّطوُّعَ.
          قال: ومِنَ الدَّليلِ أيضًا على أنَّ صلاةَ النَّهارِ كاللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى سواءً أنَّه صلعم كان يصلِّي قبْلَ الظُّهرِ رَكعتَينِ وبعدَها رَكعتينِ وبعدَ الجُمعةِ رَكعتينِ وبعْدَ الفجْرِ، وكانَ إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ صلَّى في المسجِدِ رَكعتينِ، وصلاةُ الفِطْرِ والأضحى والاستسقاءِ وتحيَّةُ المسجدِ ومِثْلُ هذا كثيرٌ.
          ودليلٌ آخَرُ أنَّ العلماءَ لَمَّا اختلفُوا في صلاةِ النَّافلةِ في النَّهارِ وقامَ الدَّليلُ على حُكمِ صلاةِ النَّافلةِ باللَّيلِ وَجَبَ ردُّ ما اختلفُوا فيه على ما أجمعُوا عليه قياسًا. وفي أبي داودَ والتِّرمِذِيِّ والنَّسائيِّ بإسنادٍ صحيحٍ: ((صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ مَثْنَى مَثْنَى)) وهو محمولٌ على بيانِ الأفضَلِ واللَّيلُ والنَّهارُ فيه سواءٌ، فإنْ جَمَعَ رَكَعَاتٍ بتسليمَةٍ جازَ أو صَلَّى رَكعةً فَرْدَةً جازَ. وقال البُخاريُّ وقد سُئِلَ عن زيادَةِ ((النَّهارِ)) فصحَّحَها، وكذا قال ابنُ الجوزيِّ إنَّها زيادٌة مِن ثِقَةٍ فقُبِلَتْ، وكان ابنُ عمَرَ لا يصلِّي أربعًا إلَّا يفْصِلُ بينهُنَّ إلَّا المكتوبةَ.
          واختَلَفَ العلماءُ في التَّطَوُّعِ ليلًا ونهارًا فقال مالكٌ وأحمدُ واللَّيثُ والشَّافِعِيُّ وابنُ أبي لَيلَى وأبو يوسُفَ ومحمَّدُ بنُ الحَسَنِ وأبو ثَورٍ: صلاةُ اللَّيلِ والنَّهارِ مثْنَى للحديثِ السَّالِفِ، لا يُقال: إنَّ معنَى الحديثِ أنْ يجلِسَ المصَلِّي في كلِّ رَكعتينِ لأنَّ مِثْلَ هذا اللَّفظِ لا يُستعمَلُ بالجلوس، ولِذلِكَ لا يُقال: صلاةُ العَصْرِ مثْنَى مثْنَى وإنْ كانَ يجلِسُ في كلِّ رَكعتين، ويُقال: صلاةُ الصُّبْحِ مَثْنى لَمَّا كانَ يُسَلِّمُ مِن رَكعتينِ، وسيأتي في التَّطوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى عن يَحيى بن سعيدٍ: ما أدركْتُ فقهاءَ أرضِنَا إلَّا يُسلِّمُون في كلِّ اثنَتَيْنِ مِن النَّهارِ.
          وقال الدَّاوُدِيُّ: لم يأتِ عنه صلعم حديثٌ صحيحٌ مفسَّرٌ أنَّه صلَّى النَّافِلَةَ أكثرَ مِن رَكعتينِ، وثبتَ عنه مِن غيرِ طريقٍ أنَّه كانَ يُصلِّي باللَّيلِ والنَّهارِ رَكعتينِ، ووَقَعَ في بعضِ طُرُقِ حديثِ ابنِ عمَرَ هذا: ((يُسلِّم مِن كلِّ رَكعتين)) وكذا في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ هنا: (رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ).
          وقال غيرُه: رُوِيَ عن الشَّارِعِ في ذلكَ أحاديثُ دالَّةٌ على التَّوسِعَةِ مِنها حديثُ عائشةَ: ((كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَة يُوْتِرُ مِن ذَلِكَ بِخَمْسٍ، لا يَجْلِسُ في شيءٍ إلَّا في آخِرِها)). وقالت أيضًا: ((كان نبيُّ الله صلعم يصلِّي تسْعَ رَكعاتٍ لا يجلِسُ إلَّا في الثَّامِنَةِ ثُمَّ يَنهَضُ ولا يُسَلِّمُ، ويصلِّي التَّاسعَةَ، فلمَّا أسنَّ وأخذَهُ اللَّحْمُ أوتَرَ بسبْعٍ)) أخرجَهُما مسلمٌ.
          قال: وحديثُ ((كَانَ صلعم يَقُومُ مِن اللَّيْلِ فَيُصَلِّي أربعًا ثُمَّ أربعًا ثُمَّ ثلاثًا)) أخرجه البخاريُّ، وقال أبو حنيفةَ والثَّورِيُّ: صَلِّ باللَّيلِ والنَّهارِ إنْ شئتَ رَكعتينِ، وإنْ شئتَ أربعًا أو سِتًّا أو ثَمَانِيًا، وقال الثَّورِيُّ: صلِّ ما شئتَ بعدَ أن تقعُدَ في كلِّ رَكعتينِ، وهو قول الحَسَنِ بن حَيٍّ، وقالَ الأَوزَاعِيُّ: صلاةُ اللَّيلِ مَثنَى والنَّهارِ أربعًا، وهو قولُ إبراهيمَ النَّخَعِيِّ وابنِ معينٍ، وقال أحمدُ فيما حكاه الأَثْرمُ: أمَّا الَّذي أختارُ فمَثْنَى مَثْنَى، وإنْ صَلَّى أربعًا فلا بأسَ وأرجُو ألَّا يَضِيقَ عليه.
          وضعَّفَ ابنُ مَعينٍ حديثَ: ((النَّهَارِ مَثْنَى)) وقال: مَنْ عَلِيٌّ الأزديُّ حتَّى أقْبَلَ منه هذا وَأَدَعَ يَحيى بنِ سعيدٍ عن نافعٍ عن ابنِ عُمَرَ أنَّهُ كان يتطوَّعُ بالنَّهارِ أرْبعًا لا يفصِلُ بينَهُنَّ، وآخُذَ بحديثِ عَلِيٍّ الأزدِيِّ؟! لو كان حديثُ عليٍّ صحيحًا لم يخالِفْهُ ابنُ عُمَرَ. وقد كان شُعبةُ يتَّقِي هذا الحديثَ وربَّما لمْ يَرْفَعْهُ، ولَمَّا أورَدَهُ التِّرمِذِيُّ ذَكَرَ فيه اختلافًا عن ابنِ عمَرَ في الرَّفْعِ والوَقْفِ. قالَ: والصَّحيحُ ما رُوِيَ عنه ذِكْرُ اللَّيلِ فقطْ. وقال النَّسائيُّ: ذِكْرُ النَّهارِ خَطَأٌ.
          فَرْعٌ: قامَ إلى ثالثَةٍ سهوًا فالأصحُّ أنَّه يقعُدُ ثُمَّ يقومُ للزِّيادةِ إن شاءَ. وقال ابن القاسِمِ: يُتِمُّها أربعًا. وقالَ ابنُ عبدِ الحَكَمِ: يرجِعُ إلى الجُلُوسِ ويسجُدُ بعْدَ السَّلامِ. وقال محمَّدُ بن مَسْلَمة: إنْ كانَ باللَّيلِ قَطَعَ _أي رَجَعَ إلى الجُلوسِ_ وإنْ كانَ بالنَّهارِ أَتَمَّ أربعًا. وهو يراعي قولَه: (صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى).
          ثانِيها: معنى (مَثْنَى مَثْنَى): اثنتين اثنتين، يريدُ رَكعتينِ رَكعتينِ بتسليمٍ في آخِر كلِّ رَكعتينِ، ومثْنَى معدولٌ عن اثنَينِ اثنَينِ فهِيَ لا تنصَرِفُ للعَدْلِ المكَرَّرِ، وكأنَّها عُدِلَتْ مرَّتينِ: مَرَّةً عن صيغةِ اثنَينِ ومَرَّةً عن تكرُّرِهَا، وهي نَكِرَةٌ تُعَرَّفُ بلامِ التَّعريفِ، تقولُ المثنَى. وكذا ثُلاثٌ ورُباعٌ، وقيل: إنَّما لم تنصَرِفْ لِلْعَدْلِ والوصْفِ، تقولُ: مَرَرْتُ بقومٍ مثنَى. أي مررتُ بقومٍ اثنينِ اثنينِ. وموضِعُهَا رَفْعٌ لأنَّها خَبَرُ المبتدَأِ الَّذي هو قولُه: (صَلاَةُ اللَّيْلِ) وفي روايةٍ عن ابنِ عمرَ سُئل: ما مثْنَى مثْنَى؟ قال: يُسَلِّم في كُلِّ رَكعتين.
          ثالثُها: قولُه: (فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ) وجاء: ((فإذا خِفْتَ الصُّبْحَ)) و((إذا رأيتَ الصُّبْحَ فأوتِرْ بواحدةٍ)) وفي أخرى: ((أوتروا قبل الصبح)) وهذا دليلٌ على أنَّ السُّنَّة جَعْلُ الوِتْرِ آخِرَ اللَّيلِ، وعلى أنَّ وقْتَهُ يخرُجُ بطلُوعِ الفجْرِ، وهذا هو المشهُورُ مِن مذهَبِنَا وبه قال جمهورُ العلماءِ مِنْهُم ابنُ عُمَرَ وعطاءٌ والنَّخَعِيُّ وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ. وقيل: يمتدُّ بعدَهُ حتَّى يصلَّيَ الفجر. وبَقَوْلِ الجمهور قال الثَّوريُّ وأبو حنيفةَ وصاحباهُ.
          واختلفَ فيه قولُ مالكٍ والمشهورُ مِن مذهبِه أنَّهُ يصلِّيهِ بعدَ طلوعِ الفجرِ ما لم يُصَلِّ الصُّبحَ، والشاذُّ مِن مذهبِه أنَّه لا يُصلِّي بعدَ طلوعِ الفجرِ. وادَّعى ابنُ بَزِيزَةَ أنَّ بالمشهورِ مِن مذهبِ مالكٍ قال أحمدُ والشَّافِعِيُّ. وقال به مِن السَّلَفِ ابنُ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ وعُبَادةُ بنُ الصَّامِتِ وحذيفةُ وأبو الدَّرداءِ وعائشةُ. وقال جماعةٌ مِن السَّلَفِ بقولِ أبي حنيفةَ وهو قولُ جماعةٍ مِن الكُوفِيِّينَ، وهو روايةُ ابنِ مصعبٍ عن مالكٍ وحكاهُ الخطَّابيُّ عنه.
          وقال طاوُس: يُصَلِّي الوِتْرَ بعدَ صلاةِ الصُّبحِ. وقال أبو ثَوْرٍ والأوزاعيُّ والحسنُ واللَّيثُ والشَّعبِيُّ وطاوس: يُصلِّي ولو طلَعَتِ الشَّمْسُ. وقال سعيدُ بن جُبَيرٍ: يوتِرُ مِن اللَّيلةِ القابِلَةِ بعدَ العشاءِ. وقال عليُّ بن الجَهْمِ: الخلافُ في ذلك مبنِيٌّ على الخلافِ الَّذي بينَ طلوعِ الفجْرِ وطلوعِ / الشَّمسِ هل هوَ مِن اللَّيلِ أو مِنَ النَّهارِ أو زمَنٌ قائمٌ بنفسِه؟
          وقال ابنُ العربيِّ: اختَلَفَ النَّاسُ في أقَلِّ النَّفْلِ فقال الشَّافِعِيُّ رَكْعَةٌ، قال: ولا يُشرَعُ إلَّا في الوِتْرِ. قلتُ: فاتَكَ الحديثُ الصَّحيحُ: ((الصَّلاةُ خَيرٌ مَوْضُوعٌ، فَمَن شاءَ استقلَّ وَمَن شاءَ اسْتَكْثَرَ)).
          قال: واختلفُوا في الوِتْرِ فقالتْ طائفةٌ: الوِتْرُ رَكْعَةٌ، ورُوِيَ ذلكَ عن ابنِ عمَرَ وقال: ((كذلكَ أوتَرَ رسولُ الله صلعم وأبو بكرٍ وعمر)) ورُوِيَ عن عثمانُ أنَّه كان يُحيي اللَّيلَ بِرَكعةٍ يَجمَعُ فيها القرآنَ يوتِرُ بها، وعن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ وابنِ عبَّاسٍ ومعاويةَ وأبي موسى وابنِ الزُّبَيرِ وعائشةَ: الوِتْرُ رَكعةٌ. وبه قال عطاءٌ ومالكٌ والشَّافِعِيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ، إلَّا أنَّ مالكًا قال: الوِتْرُ واحدةٌ ولا بُدَّ أن يكونَ قبلَها شَفْعٌ، يُسلِّمُ بينَهُنَّ في الحَضَرِ والسَّفَرِ، وعن مالكٍ: لا بأسَ أنْ يوتِرَ المسافرُ بواحِدَةٍ، وعنه: يوتِرُ بثلاثٍ. وأُوِّلَ، وأوتَرَ سُحنُونٌ في مرضِهِ بواحِدَةٍ، وهو دالٌّ على أنَّ الشَّفْع ليسَ بشَرْطٍ في صِحَّةِ الوِتْر. وقال الأوزاعيُّ: إن شاء فَصَلَ بينهما، وإن شاء وصل.
          وقالتْ طائفةٌ: يوتِرُ بثلاثٍ لا يفصِلُ بينَهُنَّ بسلامٍ، رُوِيَ ذلك عن عمَرَ وعليٍّ وابنِ مسعودٍ وحذيفةَ وأُبَيِّ بن كعبٍ وابنِ عبَّاسٍ وأنسٍ وأبي أُمَامةَ، وبه قال عمرُ بنُ عبد العزيز والفقهاءُ السَّبعةُ بالمدينةِ. وقال سعيدُ بن المسيَّب: لا يُسلِّم في ركعَتَيِ الوِتْرِ، وإليه ذهبَ الكوفيُّونَ والثَّوريُّ، وقال التِّرمِذِيُّ: ذهبَ جماعةٌ مِن الصَّحابةِ وغيرِهم إلى هذا. وقال الزُّهريُّ: يوتِرُ بثلاثٍ في رمضانَ وفي غيرِهِ بواحدَةٍ. (قَالَ القَاسِمُ: وَرَأَيْنَا النَّاسَ مُنْذُ أَدْرَكْنَا يُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ وَإِنَّ كُلًّا لَوَاسِعٌ، أَرْجُو أَلَّا يَكُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَأْسٌ) ذَكَرَهُ البُخاريُّ في الحديثِ الثَّالِثِ.
          وتَأوَّلَ الكوفيُّونَ حديثَ ابنِ عبَّاسٍ الآتي حينَ باتَ عندَ خالتِه ميمُونةَ ورَمَقَ صلاتَه صلعم ليلًا فَذَكَرَ أنَّه (صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ) حتَّى عَدَّ ثِنْتَي عَشْرَةَ رَكعةً، قال: (ثُمَّ أَوْتَرَ) فيحتمل أنْ يكونَ أوتَرَ بواحِدَةٍ مع اثنَتَينِ قد تقدَّمَتَاها فتكونُ مع الواحدةِ ثلاثًا؟
          وكذلك تأوَّلُوا في حديثِ عائشةَ الآتي: ((كَانَ يُصَلِّي باللَّيلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تلكَ صَلَاتُهُ باِللَّيْلِ)) أنَّ الوِتْرَ منها الرَّكعةُ الأخيرةُ معَ رَكعتينِ تقدَّمَتْها، ويَدُلُّ على ذلك ((أنَّه صلعم كان لا يزيدُ في رمضانَ ولا غيرِه على إحدَى عَشْرَةَ رَكعةً، يُصلِّي أربعًا فلا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ وطولِهنَّ، ثُمَّ يُصلِّي أربعًا كذلك ثم ثلاثًا)) فَدَلَّ أنَّ الوِتْرَ ثلاثٌ.
          وقالَ أهْلُ المقالةِ الأُولَى: قولُه: (صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) تفسيرُ حديثِ عائشَةَ أنَّهُ كان يصلِّي أربعًا ثُمَّ أربعًا ثُمَّ ثلاثًا، وهي زيادةٌ يجِبُ قَبولُها، وقولُه: ((فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ، تُوتِرُ لَكَ مَا قَدْ صَلَّيْتَ)) دِلالةٌ على أنَّ الوِتْرَ واحدَةٌ لأنَّه صلعم قالَ في الرَّكعةِ: ((إنَّمَا هِيَ الَّتي تُوْتِرُ مَا كَانَ قَبْلَهَا)).
          والوِتْرُ في لسانِ العرَبِ هو الواحدُ، فلِذلك قال صلعم: ((إنَّ الله وِترٌ)) أي واحِدٌ لا شريكَ له، والاسمُ يتعلَّقُ بأوَّلِ الاسمِ كما أنَّ الظَّاهِرَ مِن قولِه: (مَثْنَى مَثْنَى) أي ثِنْتَيْنِ مفرَدَتينِ، فدلَّ ذلك أنَّ الواحدَةَ هي الوِتْرُ دونَ غيرِها، وإذا جازَتِ الرَّكعةُ بعدَ صلاةِ رَكعتينِ أو أكثَرَ جازتْ دونَها لأنَّها منفصِلَةٌ بالسَّلامِ منها.
          وكان مالكٌ يَكْرَهُ الوِتْرَ بواحدةٍ ليسَ قبلَها نافلةٌ ويقولُ: أيُّ شَيْءٍ توتِرُ له الرَّكعةُ وقد قال صلعم: ((تُوْتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى))؟ أَلَا ترى أنَّهُ لم يُوتِرْ قَطُّ إلا بعْدَ عشْرِ رَكَعاتٍ أو اثنتي عَشْرَةَ على اختلافِ الأحاديثِ في ذلكَ، فلِذَلِكَ استَحَبَّ أن تكونَ للرَّكعَةِ الوِتْرِ نافِلَةٌ تُوتِرُهَا وأقلُّ ذلك رَكعتانِ.
          تنبيهٌ: ادَّعى بعضُهم أنَّ معنى قولِه: (فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ) ظاهِرُه إذا خَشِيَ وهو في شَفْعٍ انصَرَفَ مِن رَكعةٍ واحدةٍ فالوِتْرُ إذنْ لا يفتَقِرُ إلى نِيَّةٍ، وليسَ كما زَعَمَ، بلْ ظاهِرُهُ أنَّهُ يُصَلِّي رَكعةً كاملةً بعدَ الخَشْيَةِ.
          فَرْعٌ: هل يحتاجُ الوِتْرُ إلى نِيَّةٍ؟ قال مالكٌ نعمْ وخالفَهُ أصبَغُ، وقال محمَّدٌ: إذا أحرَمَ بشَفْعٍ ثُمَّ جعلَهُ وِتْرًا لا يُجْزِئُهُ.
          رابعُها: قولُه: (تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صلَّى) قد يَستدِلُّ به مالكٌ أنْ يكونَ قَبْلَ الوِتْرِ شَفْعٌ وهو مشهورُ مذهبِهِ، وأقلُّ الشَّفْعِ رَكعتَانِ عندَه.
          وقولُ البُخاريِّ: (وَعَنْ نَافِعٍ...) إلى آخِرِه. مَبْنِيٌّ على السَّنَدِ الَّذي قبْلَهُ وهُو حديثُ (صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) وإنَّما ذَكَرَهُ كذلكَ لِأمرينِ: أنْ يكونَ سَمِعَ كُلًّا منهُما مفتَرِقًا عن الآخَرِ، أو أرادَ أنْ يُفَرِّقَ بينَ الحديثِ والأَثَرِ. والبيهقيُّ لَمَّا ذَكَرَ الأثرَ خاصَّةً مِن طريقِ مالكٍ عن نافعٍ أنَّ ابنَ عمرَ كانَ يُسَلِّمُ، فَذَكَرَهُ وعَزَاه إلى البُخاريِّ، ورواهُ الشَّافِعِيُّ عن مالكٍ ولفظُه: مِنَ الوِتْرِ بَدَلَ: (في الوِتْرِ).
          ورَوَى مِن طريقِ الأوزَاعِيِّ عن المطَّلِبِ بنِ عبدِ الله المخزُومِيِّ قال: أَتَى عَبْدَ اللهِ بنَ عُمَر رَجُلٌ قال: وكيفَ أُوْتِرُ؟ قالَ: أَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ. قال: إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَقُولَ النَّاسُ الْبُتَيْرَاءُ. قال: أسنَّةَ اللهِ وَرَسُولِهِ تُرِيدُ؟ ((هَذِهِ سُنَّةُ اللهِ وَرَسُولِهِ)). وفي روايةٍ أُخرى: البُتَيْرَاء أنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ الرَّكعةَ الثَّانيةَ في ركوعِها وسجودِها وقيامِها ثُمَّ يقومُ في الأُخرَى ولا يُتِمُّ لها ركوعَها ولا سجودَها ولا قيامَها، فَتِلْكَ البُتَيْرَاءُ. ثُمَّ ساقَ عن عثمانَ أنَّه أوتَرَ برَكعةٍ، وعنِ ابنِ عبَّاس أنَّه قال لعطاءٍ: أَلَا أُعَلِّمُكَ الوِتْرَ؟ قلتُ: بلى. فقامَ فَرَكَعَ رَكعةً.
          وإنَّما ذَكَرَ البُخاريُّ عن ابنِ عمرَ هذا الأثرَ لِيَرُدَّ على أبي حنيفةَ قولَه: وكلُّ مَن رُوِيَ عنه الفصْلُ بينَ الشَّفْعِ ورَكعةِ الوِتْرِ بسلامٍ يُجيزُ الوِتْرَ بواحدَةٍ ليسَ قَبْلَها شَيْءٌ. قال الشَّعبِيُّ: كان آلُ سعدٍ وآلُ عبدِ الله بن عمرَ يسلِّمُونَ في رَكعتَيِ الوِترِ ويوتِرُونَ بِركعةٍ.
          خامسُها: أكثرُ العلماءِ على أنَّ الوِتْرَ سُنَّةٌ مُتَأكِّدةٌ، منهم عليٌّ وعُبَادةُ بن الصَّامِتِ وسعيدُ بن المسيَّبِ والحسَنُ والشَّعبيُّ وابنُ شهابٍ، وبه قالَ الثَّوريُّ والأئمَّةُ الثَّلاثَةُ واللَّيثُ وعامَّةُ الفقهاءِ، وقال القاضي أبو الطَّيِّبِ: إنَّه قولُ العلماءِ كافَّةً حتَّى أبو يوسفَ ومحمَّدٌ، قال: وقال أبو حنيفةَ وحْدَهُ: هو واجبٌ وليسَ بفرْضٍ، فإنْ تَرَكَهُ حتَّى طلعَ الفجْرُ أثِمَ ولَزِمَه / القضاءُ.
          وقال أبو حامدٍ في «تعليقِه»: الوِتْرُ سُنَّةٌ مؤكَّدةٌ ليسَ بفرضٍ ولا واجبٍ وبه قالتِ الأمَّةُ كلُّها، وقال أبو حنيفةَ هو واجبٌ وهو آخِرُ أقوالِه، وعنه فرضٌ وهو قولُ زُفَرَ، وسُنَّةٌ وهو قولُ صاحبَيْهِ كما سَلَفَ. وعنْ مالكٍ _فيما رواه ابنُ حزْمٍ عنه_ ليسَ فرْضًا ولكنْ مَن تركَهُ أُدِّبَ وكانَتْ جَرْحَةً في شهادتِه، ومالَ سُحنُونٌ وأصبَغُ فيما حكاه عنه ابنُ العَرَبيِّ إلى وجوبِه، وعن أحمدَ فيما حكاه في «المغني» أنَّ تاركَه عمدًا رجلُ سوءٍ ولا ينبغي أن تُقبَلَ شهادتُه.
          وحكى ابنُ بطَّالٍ عن ابنِ مسعودٍ وحذيفةَ والنَّخَعيِّ أنَّه واجبٌ على أهلِ القرآنِ دونَ غيرِهم. وعن يوسفَ بن خالدٍ السَّمْتِيِّ شيخِ الشَّافعيِّ واجِبٌ. وفي الْمَرْغِيْنَانِيِّ الحنفيِّ: لو اجتَمَعَ أهلُ قريةٍ على تَرْكِ الوِتْر أدَّبَهُم الإمامُ وحَبَسَهُم، فإنِ امتَنَعُوا قاتَلَهُم. وفي «الذَّخيرةِ»: يعصِي في ظاهِرِ الرِّوايةِ. وعن أبي يوسُفَ: لا. وعندَ محمَّدٍ: أَحْبِسُهُ. وعندَ الشَّافعيِّ: لا يجِبُ القضاءُ. وفي استحبابِه قولانِ أظهَرُهُمَا نعمْ. وعن أحمَدَ وأبي مصعبٍ واللَّخميِّ: لا يُقضى بعدَ الفَجْرِ ويُقضَى طلوعَ الشَّمس. لا يُقضَى عندَ مالكٍ.
          حُجَّةُ الجُمهورِ حديثُ الأعرابيِّ: لا أزيدُ على هذا ولا أنقُصُ، قال صلعم: ((أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ)) وفيه أدلَّةٌ أربعةٌ: إخبارُهُ أنَّ الواجبَ الخَمْسُ فقط. هلْ عَلَيَّ غيرُها؟ قال ((لاَ إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ)) فصريحُهُ أنَّ الزِّيادةَ تطوُّعٌ. ((أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ)) دليلٌ على ألَّا إثمَ بتَرْكِ غيرِ الخمْسِ.
          وحديثُ معاذٍ: ((أَعْلِمْهُم بأنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ)) الحديث أخرجاه، وهو مِن أحسَنِ الأدِلَّةِ لأنَّ بَعْثَ معاذٍ كان قبْلَ وفاتِه ◙ بقليلٍ. وحديثُ عُبَادةَ بنِ الصَّامِتِ وتكذيبُه الْمُخْدَجِيَّ فإنَّه قال هو واجبٌ فقال عبادةُ: كَذَبَ، سمعتُ رسولَ الله صلعم يقول: ((خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ)) رواه مالكٌ في «الموطَّأ» وأبو داودَ والنَّسائيُّ بإسنادٍ صحيحٍ.
          احتجَّ المخالِفُ بأدلَّةٍ: بحديثِ أبي أيُّوبَ مرفوعًا: ((الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)) صحَّحه الحاكمُ، وبحديثِ عليٍّ مرفوعًا: ((يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا؛ فَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ)) رواه أبو داودَ والنَّسائيُّ والتِّرمِذِيُّ وحسَّنَهُ، وبحديثِ بُرَيدةَ مرفوعًا: ((الوِترُ حقٌّ، فمَنْ لم يوترْ فلَيسَ منَّا)) قالَ ذلكَ ثلاثًا، رواه أبو داودَ وصحَّحَهُ الحاكم. وبحديثِ عمْرِو بنِ شُعَيب عن أبيهِ عن جَدِّه مرفوعًا: ((إنَّ اللهَ زَادَكُم صَلَاةً فَحَافِظُوا عَلَيْهَا، وَهِيَ الوِتْرُ)) رواه أبو داودَ والتِّرمِذِيُّ وابنُ ماجه.
          وبحديثِ أبي سعيدٍ مرفوعًا: ((أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا)) رواه مسلم، وبحديثِ عائشةَ: ((كَانَ صلعم يُصَلِّي مِن اللَّيْلِ الوِتْرَ، فإذا أَوْتَرَ قالَ: قُوْمِي فَأَوْتِرِي يا عَائِشَةُ)) رواه مسلمٌ أيضًا، وبحديثِ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ الْعَدَوِيِّ مرفوعًا: ((إِنَّ اللهَ قَدْ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَهِيَ ما بَيْنَ صَلَاةِ العِشَاءِ إلى طُلُوعِ الفَجْرِ، الوِتر الوِتر. مرَّتينِ)) أخرجه أبو داودَ والترمذيُّ.
          وبحديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ مرفوعًا: ((مَن نامَ عَن وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إذا ذَكَرَهُ)) رَوَيَاه أيضًا، والقضاءُ فَرْعُ الأداءِ لكنْ لا نُسلِّمُ الوجوبَ، وبحديثِ معاذٍ مرفوعًا: ((زَادَني رَبِّي صَلاةً وَهِيَ الوِتْرُ، وَقْتُهَا بَيْنَ العِشَاءِ إلى طُلُوعِ الفَجْرِ)) رواه أحمدُ، وبحديثِ جابرٍ: ((أيُّكُم خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِن آخِرِ اللَّيلِ فَلْيُوْتِرْ ثُمَّ لِيَرْقُدْ)) الحديث أخرجه مسلم.
          والزِّيادَةُ والإمدادُ تكون مِن جِنْسِ اللَّاحِقِ به كَمَدَّ الله في عُمُرِكَ، وأَمَدَّ السُّلطانُ الجيشَ، وَنَسَبَ زيادَتَه للربِّ جلَّ جلالُه فكانَ بأَمْرِهِ وإيجابِه، ولو لم يكنْ واجِبًا لكانَ كالتَّراويحِ والسُّنَنِ الَّتي واظَبَ عليها ولم يجعَلْها زيادةً في الفرائضِ، فَجَعَلَ الوِتْرَ زيادةً على الفرائضِ مِن الله ولم يجعَلِ السُّننَ زائدةً عليها فَدَلَّ على أنَّ الوِتْر زيادةٌ.
          وذَكَرَ الطَّحاويُّ أنَّ وجوبَ الوِتْرِ إجماعٌ مِن الصَّحابةِ، وأجابُوا عن حديثِ الأعرابيِّ أنَّهُ كانِ قَبْلَ وجوبِه لأنَّ قولَه: ((زَادَكُم)) يُشْعِر بتأخيرِه عن الخَمْسِ، ولا نُسَلِّمُ لهم ذلك. وأمَّا صلاتُهُ الوِتْرَ على الرَّاحِلَةِ، والفرضُ لا يُؤدَّى عليها فكانَ واجبًا عليه ومِن خصائِصِه تَأَدِّيهِ على الرَّاحِلَةِ، وحديثُ: ((ثَلَاثٌ هُنَّ عَليَّ فَرَائِضُ وَلَكُم تَطَوُّعٌ)) وَعَدَّ منها الوِتْرَ، لا يَصِحُّ فلا أَحْتَجُّ به.
          وادَّعى القَرافيُّ في «الذَّخيرةِ» أنَّ الوِتْرَ في السَّفَرِ ليسَ بواجبٍ عليهِ، وفِعْلُهُ صلعم كانَ في السَّفَرِ، وهو غريبٌ. ورَوَى الطَّحاويُّ عن نافعٍ عن ابن عمَرَ ((أنَّهُ كانَ يُصَلِّي على رَاحِلته ويُوْتِرُ بالأرْضِ ويزعُمُ ابنُ عمرَ أنَّ رسول الله صلعم كان يفعلُ كذلك)) وفي «المحيطِ» للحنفِيَّةِ: لا يجوز أن يوتِرَ قاعدًا مع القُدرةِ على القيامِ، ولا على راحِلَتِه مِن غيرِ عُذرٍ. وفي «المبسوطِ»: يوتِرُ عندَهُما _يعني الصَّاحِبَيْنِ_ على الدَّابةِ مِن غيرِ ضرورةٍ.
          وإنَّما لم يُكَفَّرْ جاحدُهُ للاختلافِ. وفي النَّسائيِّ والتِّرمِذِيِّ محسِّنًا عن عليٍّ قال: ليسَ الوِتْرُ بحتْمٍ كهيئةِ المكتوبةِ، ولكنَّه سُنَّةٌ سنَّها رسولُ الله صلعم. وقال عُبَادةُ بن الصَّامت: الوِتْرُ أمرٌ حَسَنٌ جميلٌ عَمِلَ بهِ النَّبيُّ صلعم والْمُسْلِمُون مِن بَعْدِهِ، وَلَيْسَ بِوَاجبٍ. أخرجه الحاكمُ وقال: صحيحٌ على شرطِ الشَّيخَينِ. ولأنَّها صلاةٌ لا يُشرَعُ لها أذانٌ ولا إقامةٌ فلم تَكُنْ واجبةً على الأعيانِ كالضُّحى وغيرِها، واحترَزْنَا بالأعياِن عن الجنازةِ والنَّذرِ.
          والأحاديثُ التي استدلُّوا بها للوجوبِ محمولةٌ على الاستحبابِ والتَّأكدِ، ولا بُدَّ مِن ذلكَ لِلْجَمْعِ بينَها وبينَ الأحاديثِ الَّتي استدْلَلْنَا بها على عدمِ الوجوبِ. وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] فأخبَرَ أنَّ لها وُسْطَى وإذا جعلْنَا الوِتْرَ واجبًا لَزِمَنَا المحافظةُ على سِتٍّ وإنَّما هي خمْسٌ. وحديثُ البابِ: (فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صلَّى) أي تُوتِرُ له تلك الصَّلاةَ، وصلاةُ اللَّيلِ ليستْ بواجِبَةٍ فكذا ما يوتِرُها.