شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}

          ░13▒ باب: قَوْلِ اللهِ ╡: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}[المائدة:38]وفي كَمْ يُقْطَعُ؟ وَقَطَعَ عَلِيٌّ مِنَ الْكَفِّ. وَقَالَ قَتَادَةُ في امْرَأَةٍ سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ شِمَالُهَا: لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ.
          فيه: عَائِشَةُ قاَلَتْ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (تُقْطَعُ الْيَدُ في رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا). [خ¦6789]
          وقالت مرَّةً: إِنَّ السَّارِقِ لَمْ يُقْطَعْ على عَهْدِ النَّبيِّ صلعم إِلَّا في ثَمَنِ مِجَنٍّ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ. [خ¦6792]
          وقالت مَرَّةً: لَمْ تُقْطَعُ في أَدْنَى مِنْ ثَمَنِ المِجَن حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَا ثَمَنٍ. [خ¦6793]
          وفيه: ابْنُ عُمَرَ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَطَعَ في مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ). [خ¦6795]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: النَّبيُّ صلعم: (لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ). [خ¦6799]
          هذه الآية محكمةٌ في وجوب قطع السارق ومجملةٌ في مقدار ما يجب فيه القطع، فلو تركنا مع ظاهرها لوجب القطع في قليل الأشياء وكثيرها، لكن بيَّن لنا النبيُّ صلعم مقدار ما يجب فيه القطع بقوله: ((يقطع الكفُّ في ربع دينارٍ فصاعدًا)) ففهمنا بهذا الحديث أنَّ الله إنَّما أراد بقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}[المائدة:38]بعض السرَّاق دون بعضٍ فلا يجوز قطع يد السارق إلَّا في ربع دينارٍ فصاعدًا أو فيما قيمته ربع دينارٍ ممَّا يجوز ملكه إذا سرق من حرزٍ. روي هذا القول عن عمر وعثمان وعليٍّ وعائشة، وهو قول مالكٍ والليث والأوزاعيِّ والشافعيِّ وأبي ثورٍ.
          وذهب الثوريُّ والكوفيُّون إلى أنَّه لا تقطع اليد إلَّا في عشرة دراهم، وقالوا: من سرق مثقالًا لا يساوي عشرة دراهم لا قطع عليه. وكذلك من سرق عشرة دراهم فضَّةً لا تساوي عشرة دراهم مضروبةً لم يقطع، واحتجُّوا بما رواه أبو إسحاق، عن أيُّوب بن موسى، عن عطاءٍ، عن ابن عبَّاسٍ قال: كانت قيمة المجنِّ الذي قطع رسول الله صلعم فيه عشرة دراهم.
          والحجَّة على الكوفيِّين أنَّه يحتمل أن يكون القطع في عهد رسول الله صلعم في مجنَّين مختلفين أحدهما ثمنه ثلاثة دراهم والثاني ثمنه عشرة دراهم؛ لأنَّه إذا صحَّ القطع بنقل الثقات في ثلاثة دراهم دخلت فيه العشرة دراهم، وهذا أولى من حمل الأخبار على التضادِّ. ومع الأربعة الأئمَّة الراشدين عائشة وأبو هريرة وأبو سعيدٍ الخدريُّ وابن الزبير رضوان الله عليهم.
          واختلف مالكٌ والشافعيُّ في تقويم الأشياء المسروقة، فقال مالكٌ: تُقوَّم بالدراهم على حديث ابن عمر أنَّ المجنَّ كان ثمنه ثلاثة دراهم، ولا تردُّ الفضَّة إلى الذهب في القيمة ولا الذهب إلى الفضة، فمن سرق عنده ربع دينارٍ فعليه القطع، ومن سرق ثلاثة دراهم فعليه القطع، ولو سرق عبده درهمين صرفهما ربع دينارٍ لم يجب عليه القطع، ولو سرق ربع دينارٍ لا تبلغ قيمته ثلاثة دراهم لوجب عليه القطع.
          وذهب الشافعيُّ إلى أنَّ تقويم الأشياء بالذهب على حديث عائشة في ربع دينارٍ، ولا يقوم شيئًا بالدراهم فيقطع في ربع دينارٍ ولا يقطع في ثلاثة دراهم إلَّا أنَّ تكون قيمتها ربع دينارٍ قال: لأنَّ الثلاثة دراهم إنَّما ذكرت في الحديث؛ لأنَّها كانت يومئذٍ ربع دينارٍ ذهبًا. فيقال للشافعيِّ: الذهب والورق أصلان كالدية التي جعلت ألف دينارٍ أو اثني عشر ألف درهمٍ، وكالزكاة التي جعلت في مائتي درهم أو عشرين دينارًا لا يردُّ أحدهما إلى الآخر. فكذلك لا ينبغي أن يقوَّم الذهب بالدراهم ولا تقوَّم الدراهم بالذهب؛ لأنَّها قيم المتلفات وأثمان الأشياء، بل الغالب القيمة بالدراهم، ومحالٌ أن يحكي ابن عمر أنَّ المجنَّ قيمته ثلاثة دراهم إلَّا وقد قوِّم بها دون الذهب، وإذا ثبت أنَّ المجنَّ قُوِّم بالدراهم ولم ينقل أنَّ الدراهم بعد ذلك قوِّمت بالذهب لم يجز تقويمها بالذهب كما لا يقوَّم الذهب بها، ووجب استعمال الأحاديث فوجب القطع في ربع دينارٍ وثلاثة دراهم.
          واختلفوا في اليد والرجل من أين يقطعهما.
          فروي عن عمر وعثمان و عليٍّ أنَّهم قالوا: من المفصل. وعليه أكثر الفقهاء، وقد روي عن عليٍّ روايةٌ أخرى أنَّها تقطع اليد من الأصابع والرجل من نصف القدم ويترك له عقبًا. وقال أبو ثورٍ: فعل عليٍّ أرفق وأحبُّ إليَّ.
          والقول الأوَّل: أولى بتأويل قوله تعالى: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}[المائدة:38].
          واختلفوا إذا سرق ثالثةً بعد أن قطع في الأولى والثانية، فقالت طائفةٌ: تقطع يده اليسرى، ثمَّ إن سرق رابعةً قطعت رجله اليمنى فيصير مقطوع اليدين والرجلين. روي هذا عن أبي بكرٍ الصدِّيق وعمر وعثمان، ومن التابعين عروة والقاسم وسعيد بن المسيِّب وربيعة، وهو قول مالكٍ والشافعيِّ.
          وقال أبو حنيفة والثوريُّ والأوزاعيُّ: إن سرق الثالثة لا يقطع منه شيءٌ ويغرم السرقة، روي مثل هذا عن عليِّ بن أبي طالبٍ وهو قول النَّخَعِيِّ والشَّعبيِّ والزهريِّ.
          وقال عطاءٌ وقال بعض أصحاب الظاهر: لا يجب أن يقطع من السارق إلَّا الأيدي دون الأرجل، واحتجَّ عطاءٌ بقول الله ╡: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}[المائدة:38]ولو شاء أمر بالرجل وما كان ربُّك نسيًّا.
          وحجَّة الكوفيِّين ما رواه إسماعيل بن جعفر، عن أبيه أنَّ عليَّ بن أبي طالبٍ كان لا يزيد أنَّ يقطع للسارق يدًا أو رجلًا فإذا أتي به بعد ذلك قال: إنِّي لأستحي أن لا يتطهَّر للصلاة ولكن امسكوا كلبه عن المسلمين بالسجن وأنفقوا عليه من بيت المال.
          والحجَّة لمالكٍ أنَّ أهل العراق والحجاز يقولون بجواز قطع الرجل بعد اليد وهم يقرؤون {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}[المائدة:38]وهذه المسألة تشبه المسح على الخفين وهم يقرؤون غسل الرجلين أو مسحهما، وتشبه الجزاء في قتل صيد الخطأ وهم يقرؤونه {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا}[المائدة:95]ولا يجوز على الجمهور تحريف الكتاب ولا الخطأ في تأويله، وإنَّما قالوا ذلك بالسنَّة الثابتة والأمر المتَّبع.
          وقال إسماعيل بن إسحاق: لمَّا قال الله تعالى: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}[المائدة:38]فأجمعوا أنَّ يده تقطع، ثمَّ إنَّ سرق بعد ذلك قطع منه شيءٌ آخر، فدلَّ على أنَّ المذكور في القرآن إنَّما هو على أوَّل حكمٍ يقع عليه في السرقة، وأنَّه إن سرق بعد ذلك أعيد عليه الحكم كما يحدُّ إذا زنا وهو بكرٌ، فإذا أعاد الزنا أعيد عليه الحدُّ فلمَّا صحَّ هذا وجب أن يقطع أبدًا حتَّى لا يبقى له يدٌ ولا رجلٌ كما يجلد أبدًا حتَّى لا يبقى فيه موضع جلدٍ.
          وقال بعضهم: إنَّما فهم السلف قطع يد السراق وأرجلهم من خلافٍ من آية المحاربين، والله أعلم، وقد تقدَّم الكلام على حديث أبي هريرة في باب لعن السارق إذا لم يسمَّ. [خ¦6783]