شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يكره من لعن شارب الخمر وإنه ليس بخارج من الملة

          ░5▒ باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ لَعْنِ شَارِبِ الْخَمْرِ
          وَأَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَن الْمِلَّةِ
          فيه: عُمَرُ: (أَنَّ رَجُلًا على عَهْدِ النَّبيِّ صلعم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ صلعم، وَكَانَ النَّبيُّ صلعم قَدْ جَلَدَهُ في الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النبَّيُّ صلعم: لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ إلَّا(1) إِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ). [خ¦6780]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَة: (أُتِيَ النَّبيُّ صلعم بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ(2) رَجُلٌ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: لا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ على أَخِيكُمْ). [خ¦6781]
          وروى ابن المنذر هذا الحديث وقال فيه بعد قوله: ((لَا تُعِينُوا عَلَيهِ الشَّيطانَ)) ولكن قولوا: ((اللَّهُمَّ اغفر له)).
          قال المُهَلَّب: في هذا الحديث بيان قوله صلعم: ((لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمنٌ)) يريد وهو مستكمل الإيمان، وليس بخارجٍ من الملَّة بشربها ولا بمعصيةٍ من المعاصي؛ لأنَّ النبيَّ صلعم قد شهد للشارب بحبِّ الله ورسوله وبالإسلام، وقال فيه صلعم: ((لَا تُعِينوا الشَّيْطَانِ على أَخِيكُمْ))، فسمَّاه أخًا في الإسلام، وأمرهم أن يدعوا له بالمغفرة والرحمة.
          قال المؤلِّف: بيان قوله صلعم: ((لَا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمنٌ)) قال(3): فإن قيل: هذا الحديث معارضٌ لما روي عن النبيِّ صلعم: ((أنَّه لعن شارب الخمر وعاصرها ومعتصرها)) ولعن كثيرًا من أهل المعاصي منهم من ادَّعى إلى غير أبيه وانتمى إلى غير مواليه، ولعن المصوِّر وجماعةً يكثر عددهم.
          قيل: لا تعارض بين شيءٍ من ذلك بحمد الله، ووجه لعنته لأهل المعاصي يريد الملازمين لها غير التائبين منها؛ ليرتدع بذلك من فعلِها وسلوك سبيلها، والذي نهى(4) صلعم عن لعنه في هذا الباب قد كان أُخِذ منه حدُّ الله الذي جعله تطهيرًا من الذنوب / فحصل في حالةٍ متهيِّئةٍ للتوبة ورجا له التمادي على ما حصل له من التطهير وبركة أمره صلعم أصحابه بالدعاء له.
          فنهى عن لعنه خشية أن يوقع الشيطان في قلبه أنَّ من لعن بحضرة النبيِّ صلعم ولم يغيِّر ذلك ولا نهى عنه فإنَّه مستحقُّ العقوبة في الآخرة وإن نالته العقوبة في الدنيا فينفِّره بذلك ويغويه.
          قال المُهَلَّب: وقوله: (وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ صلعم) فيه من الفقه جواز إضحاك العالم والإمام ببادرةٍ يبدرها وأمرٍ، يعني به من الحقِّ لا من شيءٍ من الباطل.
          وقال المؤلِّف: وحديث عمر ناسخٌ لما روي عن النبيِّ صلعم أنَّه قال: ((من شرب الخمر فاجلدوه، ثمَّ إن شرب في الرابعة فاقتلوه))، لأنَّه صلعم حدَّ الرجل مرارًا في الخمر ولم يقتله؛ وبهذا قال أئمَّة الفتوى، لأنَّ قول الذي لعنه: (مَا أَكثَرَ مَا يُؤتَى بِهِ)، يقتضي حدًّا من العدد، وما يدخل في حيِّز الكثرة إن لم يكن أكثر من أربعٍ فليس بدونها، وقد رفع الإشكال في ذلك ما ذكره النسائيُّ من حديث ابن المنذر عن جابرٍ أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((إن شرب الرابعة فاقتلوه))، قال جابر: فضرب النبيُّ نعيمان أربع مراتٍ ولم يقتله، فرأى المسلمون أنَّ الحدَّ قد وقع، وأنَّ السيف قد رفع.


[1] قوله: ((مَا عَلِمْتُ إلا)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((فقال)).
[3] قوله: ((بيان قوله.... وهو مؤمن)) قال:)) ليس في (ص).
[4] زاد في (ز): ((عنه)) والمثبت من (ص).