شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: الحدود كفارة

          ░8▒ باب: الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ
          فيه: عُبَادَةُ قَالَ: (كُنَّا مع النَّبيِّ صلعم في مَجْلِسٍ، فَقَالَ: بَايِعُونِي على أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ كُلَّهَا، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ على اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ). [خ¦6784]
          فإنَّ أكثر العلماء ذهب إلى أنَّ الحدود كفَّارةٌ على حديث عُبَاْدَة ومنهم من يجبن عن هذا لما روى أبو هريرة عن النبيِّ صلعم أنَّه قال: ((لا أدري الحدود كفَّارةٌ أم لا)) لأنَّ حديث عُبَاْدَة أصحُّ من جهة الإسناد، ولو صحَّ حديث أبي هريرة لأمكن أن يقوله صلعم قبل حديث عُبَاْدَة ثمَّ يعلمه الله تعالى أنَّ الحدود مطهِّرةٌ أو ضادَّةٌ على حديث عُبَاْدَة ولا تتضادُّ الأحاديث.
          قال المُهَلَّب: فإن قيل: إنَّ آية المحاربة تعارض حديث عُبَاْدَة وهو قوله تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا}[المائدة:33]يعني الحدود {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[المائدة:33]فدلَّت هذه الآية أنَّ الحدود ليست كفَّارةً. والجواب: أنَّ الوعيد في المحاربة عند جميع المؤمنين مرتَّبٌ على قول الله: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}[النساء:48]فتأويل آية المحاربين {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[المائدة:33]إن شاء الله تعالى ذلك لقوله: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}[النساء:48]وهذه الآية تبطل نفاذ الوعيد على غير أهل الشرك، إلَّا أنَّ ذكر الشرك في حديث عُبَاْدَة مع سائر المعاصي لا يوجب أنَّ من عوقب في الدنيا وهو مشركٌ أنَّ ذلك كفَّارةٌ له؛ لأنَّ الأمَّة مجمعةٌ على تخليد الكفَّار في النار، وبذلك نطق الكتاب والسنَّة.
          وقد تقدَّم هذا المعنى في كتاب الإيمان في باب علامة الإيمان حبُّ الأنصار، فحديث عُبَاْدَة معناه الخصوص فيمن أقيم عليه الحدُّ من المسلمين خاصَّةً، أنَّ ذلك كفَّارةٌ له. [خ¦17]