شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الضرب بالجريد والنعال

          ░4▒ باب: الضَّرْبِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ
          فيه: عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم أُتِيَ بالِنُعَيْمَانَ، أَوْ بِابْنِ النُعَيْمَانَ، وَهُوَ سَكْرَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِ وَأَمَرَ مَنْ في الْبَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوهُ فَضَرَبُوهُ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَكُنْتُ فِيمَنْ ضَرَبَهُ). وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ. [خ¦6775]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَة: (أُتِيَ النَّبيُّ صلعم بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، فَقَالَ: اضْرِبُوهُ، فقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللهُ، قَالَ: لا، تَقُولُوا هَكَذَا، لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ). [خ¦6777]
          وفيه: عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ قَالَ: مَا كُنْتُ لأقِيمَ حَدًّا على أَحَدٍ فَيَمُوتَ، فَأَجِدَ في نَفْسِي إِلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم لَمْ يَسُنَّهُ. [خ¦6778]
          وفيه: السَّائِبُ: كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم وَإِمْرَةِ أبي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلافَةِ عُمَرَ، فَنَقُومُ إِلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ، فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ حَتَّى إِذَا عَتَوْا وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ. [خ¦6779]
          وترجم لحديث عقبة بن الحارث: باب من أمر بضرب الحدِّ في البيت.
          اختلف العلماء في حدِّ الخمر كم هو؟ فذهب مالكٌ والثوريُّ والكوفيُّون وجمهور العلماء إلى أنَّ حدَّ الخمر ثمانون جلدةً.
          وقال الشافعيُّ / وأبو ثورٍ وأهل الظاهر حدُّ الخمر أربعون.
          واحتجُّوا في ذلك بما رواه مُسَدَّدٌ قال: حدَّثنا يحيى، قال: حدَّثنا سعيد بن أبي عَرُوبة عن الدَّانَاج، عن حصين بن المنذر الرَّقَاشِيِّ أبي سَاسَان، عن عليِ بن أبي طالبٍ ☺ قال: ((جَلد رسول الله صلعم في الخمر أربعين، وجَلد أبو بكرٍ أربعين، وكمَّلها عمر ثمانين وكلٌّ سنَّةٌ)).
          وبما رواه عبد العزيز بن المختار عن الدَّانَاج، عن حصين بن المنذر قال: شهدت عثمان وقد أتي بالوليد بن عقبة وقد صلَّى بأهل الكوفة فشهد عليه حُمران ورجلٌ آخر أحدهما أنَّه رآه يشربها وشهد(1) الآخر أنَّه رآه يقيئها، فقال عثمان: لم يقئها حتَّى شربها، فقال عثمان لعليٍّ: أقم عليه الحدَّ. فأمر عبد الله بن جعفر فجلده وعليٌّ يعدُّ حتَّى بلغ أربعين، ثمَّ قال أمسك، ثمَّ قال: ((إنَّ النبيَّ صلعم جلد أربعين وعمر ثمانين وكلٌّ سُنَّةٌ وهذا أحبُّ إليَّ))، فاحتجُّوا بهذه الآثار وقالوا: إنَّ الحدَّ(2) الذي يجب على شارب الخمر أربعون.
          واحتجَّ عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا: حديث الدَّاناج غير صحيحٍ وأنكروا أن يكون عليٌّ قال من ذلك شيئًا؛ لأنَّه قد روي عنه ما يخالف ذلك ويدفعه. وبما رواه البخاريُّ أنَّ عليًّا قال: (مَا كُنْتُ لأقِيمَ الحَدَّ على أَحَدٍ فَيَمُوتَ، فَأَجِدَ في نَفْسِي إِلَّا صَاحِبَ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبيَّ صلعم لَمْ يَسُنَّهُ).
          قال الطحاويُّ: فهذا عليٌّ يخبرُ أنَّ رسول الله صلعم لم يكن سنَّ(3) في شرب الخمر حدًّا، ثمَّ الرواية عن عليٍّ في حدِّ(4) الخمر على خلاف حديث الدَّاناج من اختيار الأربعين على الثمانين، روى سفيان عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه قال: أُتِيَ عليٌّ بالنجاشيِّ قد شرب الخمر في رمضان فضربه ثمانين، ثمَّ أمر به(5) إلى السجن، ثمَّ أخرجه(6) من الغد فضربه عشرين، وقال(7): هذه لانتهاكك حرمة رمضان وجرأتك على الله.
          وروي عن ابن شهابٍ عن حميد بن عبد الرحمن: أنَّ رجلًا من كلبٍ يقال له ابن وَبرة بعثه خالد بن الوليد إلى عُمَر بن الخطَّاب فوجد عنده عليًّا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوفٍ، فقال له: إنَّ الناس قد انهمكوا في الخمر. فقال عمر لمن حوله: ما ترون؟ قال عليٌّ: يا أمير المؤمنين إنَّه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، وتابعه(8) أصحابه. أفلا ترى عليًّا لمَّا سئل عن ذلك ضرب أمثال الحدود كيف هي، ثمَّ استخرج منها حدًّا برأيه فجعله كحدِّ المفتري، ولو كان عنده في ذلك شيءٌ مُوَقَّتٌ عن النبيِّ صلعم لأغناه عن ذلك، ولو كان عند أصحابه في ذلك أيضًا عن النبيِّ صلعم شيءٌ لأنكروا عليه أخذ ذلك من جهة الاستنباط وضرب الأمثال، فكيف يجوز أن نقبل على عليٍّ ما يخالف هذا وقد قال: النبيُّ صلعم لم يسنَّ في الخمر شيئًا.
          ودلَّ حديث عقبة بن الحارث وحديث أنسٍ وحديث أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلعم لم يقصد في حدِّ الشارب إلى عددٍ من الضرب يكون حدًّا، وإنَّما أمر النبيُّ أصحابه أن يضربوه بالجريد والنعال والثياب والأيدي(9)، وإنَّما ضرب أبو بكرٍ بعده أربعين على التحرِّي منه لضربه صلعم إذ لم يوقفهم على حدٍّ في ذلك، فثبت بهذا كلِّه أنَّ التوقيف في حدِّ الخمر على ثمانين إنَّما كان في زمن عمر، وانعقد إجماع الصحابة على ذلك، فلا تجوز مخالفتهم؛ لأنَّ إجماعهم معصومٌ كما أجمعوا على مصحف عثمان ومنعوا ممَّا عداه، فانعقد الإجماع بذلك ولزمه(10) الحجَّة به، وقد قال الله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية[النساء:115]. وقال ابن مسعودٍ: ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله(11) حسنٌ؛ لأنَّ إجماعهم معصومٌ.
          وفيه حجَّةٌ لمالكٍ ومن وافقه في جواز أخذ الحدود قياسًا، خلافًا لأهل العراق وبعض أصحاب الشافعيِّ في منعهم ذلك، واستدلُّوا بأنَّ الحدود والكفَّارات وضعت على حسب(12) المصالح، وقد تشترك أشياء مختلفةٌ في الحدود والكفَّارات وتختلف أشياء متقاربةٌ، ولا سبيل إلى علم ذلك إلَّا بالنصِّ.
          فيقال لهم: أجمع الصحابة على حدِّ شارب الخمر ثمَّ نصُّوا على المعنى الذي / من أجله أجمعوا، وهو قول عليٍّ وعبد الرحمن: إذا شرب سكر، و(13) إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فأرى أن يُحدَّ حدَّ المفتري. ففي هذا دليلٌ على أخذ الحدود قياسًا، وعلى أصل القياس جواز انعقاد الإجماع عنه.
          وفي قياسهم حدَّ الخمر على حدِّ الفرية حجَّةٌ لمالكٍ ومن قال بقطع الذرائع وجعلها أصلًا وتحصينًا لحدود الله تعالى أن تنتهك؛ لأنَّ عليًّا لمَّا قال لعمر(14): إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون. وتابعه الصحابة على ذلك، ولم يخالفه أحدٌ منهم كان ذلك(15) حجَّةً واضحةً في القول بقطع الذرائع؛ لأنَّه قد يجوز أن يشرب الخمر من لا يبلغ بها إلى الهذي والفرية، ولمَّا كان ذلك غير معلومٍ لاختلاف الناس في التقليل من شربها وفي التكثير، وفي غلبة سَورتها لبعضهم وتقصيرها عن بعضٍ، وكان الحدُّ لازمًا لكلِّ شاربٍ؛ ثبت القول بقطع الذرائع فيما يخاف الإقدام فيه على المحرَّمات، وهو أصلٌ من أصول الدين ممَّا أجمع عليه الصحابة.
          قال المُهَلَّب: وفي قول عليٍّ: (مَا كُنْتُ لأقِيمَ حَدًّا على أَحَدٍ فَيَمُوتَ، فَأَجِدَ في نَفْسِي). حجَّةٌ لابن الماجِشون ومن وافقه أنَّ الحاكم لا قود عليه إذا أخطأ في اجتهاده. ويؤيِّد هذا أنَّ أسامة قتل رجلًا قال: لا إله إلا الله، ثمَّ أتى النبيَّ صلعم فأخبره بذلك فلم يزد أن وبَّخه، ولم يأمره بالدية ولم يأخذها منه لاجتهاده وتأويله في قتله.
          وقد تقدَّم اختلاف العلماء في هذه المسألة(16) في كتاب الأحكام في باب إذا قضى القاضي بجورٍ خالف فيه أهل العلم فهو مردودٌ، [خ¦7350] والحمد لله.
          وقوله: (أُتِيَ بالِنُعَيْمَانَ، وَهُوَ سَكْرَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِ وَأَمَرَ مَنْ في الْبَيْتِ أَنْ بِضَرْبِهِ)، فيه حجَّةٌ أنَّ السكران يقام عليه الحدُّ ولا يؤخَّر حتَّى يصحو؛ لأنَّ النبيَّ صلعم أمر من في البيت أن يضربوه، ولم يؤخِّره إلى أن يصحو.
          وجمهور العلماء على خلاف هذا لا، يرون الحدَّ عليه وهو سكران حتَّى يصحو، وهو قول مالكٍ والثوريِّ والكوفيِّين، قالوا: لأنَّ الحدَّ إنَّما وضعه الله تعالى للتنكيل وليألم المحدود ويرتدع، فالسكران لا يعقل ذلك؛ فغير جائزٍ أن يقام الحدُّ على من لا يحسُّ به ولا يعقل.


[1] قوله: ((شهد)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((الجلد)).
[3] في (ص): ((أن رسول الله يَسُن)).
[4] في (ص): ((شرب)).
[5] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((ثم أمر به)).
[7] في (ص): ((ثم قال)).
[8] في (ص): ((فتابعه)).
[9] قوله: ((وإنما أمر النبي أصحابه أن يضربوه بالجريد والنعال والثياب والأيدي)) زيادة من (ص).
[10] في (ص): ((على ذلك ولزمت)).
[11] قوله: ((عند الله)) زيادة من (ص).
[12] في (ص): ((بحسب)).
[13] قوله: ((إذا شرب سكر و)) ليس في (ص).
[14] قوله: ((لعمر)) ليس في (ص).
[15] قوله: ((ذلك)) ليس في (ص).
[16] قوله: ((اختلاف العلماء في هذه المسألة)) ليس في (ص). وكذا قوله: ((في باب إذا قضى.... والحمد لله)) ليس في (ص).