شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان

          ░12▒ باب: كَرَاهِيَة الشَّفَاعَةِ في الْحَدِّ إِذَا رُفِعَ إلى السُّلْطَانِ
          فيه: عَائِشَةُ: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمُ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ التي سَرَقَتْ َقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ صلعم فيها وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللهِ صلعم فَقَالَ: (أَتَشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ. ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا). [خ¦6788]
          ذهب جماعة العلماء إلى أنَّ الحدّّ إذا بلغ الإمام أنَّه يجب عليه إقامته، لأنَّه قد تعلَّق بذلك حقُّ الله ╡ ولا تجوز الشفاعة فيه لإنكاره ذلك على أسامة وذلك من أبلغ النهي، ثمَّ قام صلعم خطيبًا فحذَّر أمَّته من الشفاعة في الحدود إذا بلغت إلى الإمام.
          فإن قيل: فقد قال مالكٌ وأبو يوسف والشافعيُّ: إنَّ القذف إذا بلغ إلى الإمام يجوز للمقذوف العفو عنه إن أراد سترًا.
          قيل له: إنَّ هذه شبهةٌ يجوز بها درء الحدِّ؛ لأنَّه إن ذهب الإمام إلى حدِّ القاذف خشي أن يأتي بالبيِّنة على صدق ما قال من القذف، فيسقط الحدُّ عنه، وربَّما وجب على المقذوف فقويت الشبهة في ذلك. وقد قال مالكٌ أيضًا: إنَّه لا يجوز عفوه إذا بلغ الإمام. وهو قول أبي حنيفة والثوريِّ والأوزاعيِّ، وهذا القول أشبه بظاهر الحديث.
          وأجاز أكثر أهل العلم الشفاعة في الحدود قبل وصولها إلى الإمام، روي ذلك عن الزبير بن العوَّام وابن عبَّاسٍ وعمَّار بن ياسرٍ، ومن التابعين سعيد بن جبيرٍ والزهريُّ، وهو قول الأوزاعيِّ.
          قالوا: وليس على الإمام التجسُّس عمَّا لم يبلغه.
          وكره ذلك طائفةٌ: فقال ابن عمر: من حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود الله فقد ضادَّ الله في حكمه. وفرَّق مالكٌ بين من لم يعرف منه أذى للناس. فقال: لا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأمَّا من عُرِف بشرٍّ وفسادٍ في الأرض فلا أحبُّ أن يشفع له أحدٌ، ولكن يترك حتَّى يقام عليه الحدُّ. قال ابن المنذر: واحتجَّ من رأى الشفاعة مباحةً قبل الوصول إلى الإمام بحديث المخزوميَّة؛ لأنَّه صلعم إنَّما أنكر شفاعة أسامة في حدٍّ قد وصل إليه وعلمه.
          وفي هذا الحديث بيان رواية معمرٍ عن ابن شهابٍ: أنَّ امرأةً مخزوميَّةً كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبيُّ صلعم بقطع يدها، وقد تعلَّق بهذا قومٌ فقالوا: من استعار ما يجب القطع فيه وجحده فعليه القطع. هذا قول أحمد وإسحاق وقالوا: إنَّ الذي أوجب عليها القطع لأنَّها كانت تستعير المتاع وتجحده.
          وخالفهم أهل المدينة والكوفة والشافعيُّ وجمهور العلماء وقالوا: لا قطع عليهم. وحجَّتهم ما رواه الليث عن ابن شهابٍ في هذا الحديث: أنَّ قريشًا أهمَّهم شأن المرأة المخزوميَّة التي سرقت، فدلَّ هذا الحديث أنَّها لم تقطع على استعارة المتاع، وإنَّما قطعت على السرقة، ألا ترى قوله صلعم في آخر الحديث ((لو أنَّ فاطمة بنت محمَّدٍ سرقت لقطع محمَّدٌ يدها)) فارتفع الإشكال بهذا لو لم يذكر الليث في أوَّل الحديث أنَّها سرقت.
          قال ابن المنذر: وقد يجوز أن تستعير المتاع وتجحده ثمَّ سرقت فوجب قطع يدها للسرقة.
          وقد تابع الليث على روايته يونس بن يزيد وأيُّوب بن موسى روياه عن الزهريِّ كرواية الليث، وإذا اختلفت الآثار وجب الرجوع إلى النظر، ووجب ردُّ ما اختلف فيه إلى كتاب الله ╡، وإنَّما أوجب الله القطع على السارق لا على المستعير.