شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب لعن السارق إذا لم يسم

          ░7▒ باب: لَعْنِ السَّارِقِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ
          فيه: أَبو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ). [خ¦6783]
          قَالَ الأعْمَشُ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ، وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْهَا مَا يُسَاوِي دَرَاهِمَ.
          قال ابن قتيبة: احتجَّ الخوارج بهذا الحديث وقالوا: القطع يجب في قليل الأشياء وكثيرها.
          قال: ولا حجَّة لهم فيه، وذلك أنَّ الله تبارك وتعالى لمَّا أنزل على رسوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} الآية[المائدة:38]. قال النبيُّ صلعم: (لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) على ظاهر ما نزَّل الله عليه في ذلك الوقت، ثمَّ أعلمه الله تعالى أنَّ القطع لا يكون إلَّا في ربع دينارٍ فما فوقه على ما رواه الزهريُّ، عن عَمْرة، عن عائشة قالت: سمعت النبيَّ صلعم يقول: ((لا قطع إلَّا في ربع دينارٍ فصاعدًا))ولم يكن يعلم رسول الله صلعم من حكم الله تعالى إلَّا ما أعلمه الله، ولا كان الله يعرِّفه بذلك جملةً؛ بل كان ينزِّل عليه شيئًا بعد شيءٍ، ويأتيه جبريل ◙ بالسنن كما يأتيه بالقرآن، ولذلك قال صلعم: ((أوتيت الكتاب ومثله معه)) يعني من السنن.
          وأمَّا قول الأعمش: إنَّ البيضة في هذا الحديث بيضة الحديد التي تغفر الرأس في الحرب، وأنَّ الحبل من حبال السفن فهذا تأويلٌ لا يجوز عند من يعرف صحيح كلام العرب؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من هذين يبلغ دنيانير(1) كثيرةً. وهذا ليس موضع تكثيرٍ لما يسرقه السارق ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبَّح الله فلانًا عرَّض نفسه للضرب في عقد جوهرٍ، وتعرَّض للعقوبة بالغلول في جراب مسكٍ، وإنَّما العادة في مثل هذا أن يقال: لعنه الله تعرَّض لقطع اليد في حبلٍ رثٍّ أو كُبَّة شعرٍ أو رداءٍ خلقٍ، وكلُّ ما كان من هذا الفنِّ كان أبلغ.
          قال المؤلِّف: وقوله في الترجمة (باب لَعْنِ السَّارِقِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ) كذا في جميع النسخ، والذي يسبق من معناه _إن صحَّ في الترجمة_ أنَّه لا ينبغي تعيير أهل المعاصي ومواجهتهم باللعنة، وإنَّما ينبغي أن يلعن في الجملة من فعل أفعالهم ليكون ذلك ردعًا وزجرًا عن انتهاك شيءٍ منها؛ فإذا وقعت من معيَّنٍ لم يلعن بعينه لئلَّا يقنط أو ييأس ولنهي النبيِّ صلعم عن ذلك في حديث النعيمان.
          فإن كان ذهب البخاريُّ إلى هذا فهو غير صحيحٍ؛ لأنَّ النبيَّ صلعم إنَّما نهى عن لعنه وقال: ((لا تعينوا عليه الشيطان)) بعد إقامة الحدِّ عليه، فدلَّ هذا الحديث على الفرق بين من تجب لعنته وبين من لا تجب، وبان به أنَّ من أقيم عليه حدود الله فلا تنبغي لعنته، ومن لم يقم عليه الحدُّ فاللعنة متوجِّهة إليه سواءٌ سمِّي وعُيِّن أم لا؛ لأنَّ النبيَّ صلعم لا يلعن إلَّا من تجب له اللعنة(2) ما دام على تلك الحالة الموجبة للعنه، فإذا تاب منها وأقلع وطهَّره الحدُّ فلا لعنة تتوجَّه إليه.
          ويبيِّن هذا قوله صلعم: ((إذا زنت الأمة فليجلدها ولا يثرب)) فدلَّ هذا الحديث أنَّ التثريب واللعن إنَّما يكون قبل أخذ الحدِ وقبل التوبة. والله أعلم.


[1] في (ز): ((دينار)) والمثبت من المطبوع.
[2] قوله: ((سواء سمي وعُين.... تجب له اللعنة)) زيادة من المطبوع والتوضيح لابن الملقن.