شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله

          ░10▒ باب: إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالانْتِقَامِ لِحُرُمَاتِ اللهِ
          فيه: عَائِشَةُ قَالَتْ: (مَا خُيِّرَ النَّبيُّ صلعم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ، فَإِن كَانَ الإثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ، وَاللهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ في شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى يُنْتَهَكَ بحُرُمَاتُ اللهِ، فَيَنْتَقِمُ). [خ¦6786]
          قولها: (مَا خُيِّرَ النَّبيُّ صلعم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا)، يحتمل أن يكون هذا التخيير ليس من الله ╡؛ لأنَّ الله تعالى لا يخيِّر رسوله بين أمرين عليه في أحدهما إثمٌ، فمعنى هذا الحديث ما خيَّر رسول الله صلعم أصحابه بين أن يختار لهم أمرين من أمور الدنيا على سبيل المشورة والإرشاد إلَّا اختار لهم أيسر الأمرين ما لم يكن عليهم في الأيسر إثمٌ؛ لأنَّ العباد غير معصومين من ارتكاب الإثم، ويحتمل أن يكون ما لم يكن إثمًا في أمور الدين، وذلك أنَّ الغلوَّ في الدين مذمومٌ والتشديد فيه غير محمودٍ؛ لقوله صلعم: ((إيَّاكم والغلوَّ في الدين فإنَّما هلك من قبلكم بالغلوِّ في الدين)).
          فإذا أوجب الإنسان على نفسه شيئًا شاقًّا عليه من العبادة فادحًا له ثمَّ لم يقدر على التمادي فيه كان ذلك إثمًا، ولذلك نهى النبيُّ صلعم أصحابه عن الترهُّب.
          قال أبو قِلابة: بلغ النبيَّ صلعم أنَّ قومًا حرَّموا الطيب واللحم، منهم عثمان بن مظعونٍ وابن مسعودٍ وأرادوا أن يختصوا، فقام النبيُّ صلعم على المنبر فأوعد في ذلك وعيدًا شديدًا، ثمَّ قال: ((إنِّي لم أبعث بالرهبانيَّة، وإنَّ خير الدين عند الله الحنيفيَّة السمحة، وإنَّ أهل الكتاب إنَّما هلكوا بالتشديد، شدَّدوا فشدَّد عليهم))، ثمَّ قال: ((اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجُّوا البيت واستقيموا يستقم لكم)).
          وقد جعل مُطَرِّف بن الشِّخِّير ويزيد بن مرَّة الجعفيُّ مجاوزة القصد في العبادة وغيرها والتقصير عنه سيئةً. فقالا: الحسنة بين السيِّئتين، والسيِّئتان إحداهما مجاوزة القصد والثانية التقصير عنه، والحسنة التي بينهما هي القصد والعدل.
          قال الداوديُّ: وقولها: (وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ الله صلعم لِنَفْسِهِ)، يعني إذا أوذي بغير السبِّ الذي يخرج إلى الكفر، مثل الأذى في المال والجفاء في رفع الصوت فوق صوته، ونحو التظاهر الذي تظاهرت عليه عائشة وحفصة، ومثل جذب الأعرابيِّ له حتَّى أثَّرت حاشية البرد في عنقه أخذًا منه بقوله تعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[الشورى:43]وأمَّا إذا أوذي بالسبِّ فذلك كفرٌ، وهو انتهاك حرمة الله فيجب عليه الانتقام لنفسه، وكذلك فعل في ابن خطلٍ يوم فتح مكَّة حتَّى تعوَّذ بالكعبة من القتل، فأمر بقتله دون سائر الكفَّار؛ لأنَّه كان يكثر من سبِّه، وقد أمر بقتل قَيْنَتين كانتا تغنِّيان بسبِّه، وانتقم لنفسه؛ لأنَّه من سبَّ رسول الله صلعم فقد كفر، ومن كفر فقد آذى الله ورسوله، وكذلك قال: ((من لكعب بن الأشراف فقد آذى الله ورسوله))، فانتقم منه لذلك.
          قال المُهَلَّب: ولا يحلُّ لأحدٍ من الأئمَّة ترك حرمات الله أن تنتهك وعليهم تغيير ذلك.
          وقد روي عن مالكٍ في الرجل يؤذى وتنتهك حرمته ثمَّ يأتيه الظالم المنتهك لحرمته فيسأله الغفران. فقال: لا أرى أن يغفر له. ووجه قول مالكٍ إذا كان معروفًا بانتهاك حرم المسلمين فلا يجب أن يجري على هذا، ويُردُّ بالإغلاظ عليه والقمع له وعن ظلم أحدٍ.