شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب[الترغيب في سكنى المدينة]

          ░12▒ بَابٌ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (قَالَ النَّبيُّ: مَا بَيْنَ مِنْبَرِي وقبرِي(1) رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي على حَوْضِي). [خ¦1888]
          وفيه: عَائِشَةُ: لَمَّا قَدِمَ النَّبيُ(2) الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى، يَقُولُ: [خ¦1889]
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبِّحٌ في أَهْلِهِ                     وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِـهِ
          وَكَانَ بِلالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَقُولُ:
أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً                      بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنـَةٍ                     وَهَلْ يَبْدُوَنْ لي شَامَةٌ وَطَفِيـلُ
          (اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إلى أَرْضِ الْوَبَاءِ)، ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ ◙: (اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في صَاعِنَا ومُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إلى الْجُحْفَةِ، قَالَ: وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللهِ، قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا، مَاءً آجِنًا).
          وفيه: عُمَرُ (اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً في سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي في بَلَدِ رَسُولِكَ). [خ¦1890]
          قال المُهَلَّب: قوله: (رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ) يحتمل أن يكون على الحقيقة، ويحتمل / أن يكون على المجاز، فوجه الحقيقة أن يكون الموضع الذي بين المنبر والقبر يوم القيامة في الجنَّة روضةً، واحتجَّ قائل هذا بقوله تعالى عن أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء}[الزمر:74]قالوا: فدلَّت هذه الآية أنَّ الجنَّة تكون في الأرض يوم القيامة.
          ووجه المجاز أن يكون معناه أنَّ من صلَّى بين المنبر والقبر فقد استوجب روضة في الجنَّة، فيُجازى بها يوم القيامة على قصده وصلاته في هذا الموضع، كما قال ◙: ((ارتعوا في رياض الجنَّة)) يعني: حلق الذِّكر والعلم لما كانت مؤدِّية إلى الجنَّة، ويكون معناه التَّحريض على زيارة قبر النَّبيِّ صلعم والصَّلاة في مسجده، وكذلك يدلُّ قوله: ((صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سواه)) على الحضِّ والنَّدب على قصده والصَّلاة فيه والزِّيارة له، وقد بسطت الكلام في هذا الحديث في كتاب الصَّلاة في باب: فضل ما بين القبر والمنبر، بأسبغ ممَّا ذكرته ها هنا. [خ¦1195]
          وقول عمر: (اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَوْتِي في بَلَدِ رَسُولِكَ). احتجَّ به من فضل المدينة على مكَّة، وقالوا: لو علم عمر بلدةً أفضل من المدينة لدعا ربَّه أن يجعل موته وقبره فيها، وكان ممَّا استُدلَّ به على فضلها أنَّ الله لمَّا اختارها لقبر نبيِّه أفضل البشر عُلم أنَّه لم يختر له إلَّا أفضل البقاع، وقد جاء أنَّ ابن آدم إنَّما يدفن في التُّربة التي خلق منها، وقد ذكرنا ذلك. [خ¦1884]
          وقال بعض العلماء: وأمَّا حديث عائشة حين وُعِك أبو بكر وبلالٌ وإنشادهما في ذلك، فإنَّ الله تعالى لمَّا ابتلى نبيَّه بالهجرة وفراق الوطن ابتلى أصحابه بما يكرهون من الأمراض التي تؤلمهم، فتكلَّم كلُّ إنسان منهم حسب يقينه وعلمه بعواقب الأمور، فتعزَّى أبو بكر عند أخذ الحمى له بما ينزل به الموت في صباحه ومسائه، ورأى أنَّ ذلك شاملٌ للخلق، فلذلك قال: (كُلُّ امْرِئٍ مُصَبِّحٌ في أَهْلِهِ). يعني: تُصَبِّحه الآفات وتُمَسِّيه، وأمَّا بلالٌ فإنَّما تمنى الرُّجوع إلى مكَّة وطنه الذي اعتاده ودامت فيه صحَّته، فبان فضل أبي بكر وعلمه بسرعة فناء الدُّنيا حتَّى مثَّل الموت بشراك نعله.
          فلمَّا رأى رسول الله صلعم ما نزل بأصحابه من الحُمَّى والوباء خشي كراهية البلد، لما في النُّفوس من استثقال ما تكرهه، فدعا الله في رفع الوباء عنهم، وأن يحبِّب إليهم المدينة كحبِّهم مكَّة وأشدَّ، فدلَّ ذلك أنَّ أسباب التَّحبيب والتَّكريه بيد الله، وهبةٌ منه يهبها لمن شاء، وفي هذا حجَّة واضحةٌ على من كذَّب بالقدر، إِذِ الذي يملك النُّفوس فيحبِّب إليها ما أحبَّ، ويكرِّه إليها ما كره هو الله، فأجاب دعوة نبيِّه، فأحبُّوها حبًّا أدامه في نفوسهم حتَّى ماتوا عليه.
          وأمَّا قوله: (وَصَحِّحْهَا) ففيه من الفقه أنَّ الله أباح للمؤمن أن يسأل ربَّه صحَّة جسمه وذهاب الآفات عنه إذا نزلت به، كسؤاله إيَّاه في الرِّزق والنَّصر، وليس في دعاء المؤمن ورغبته في ذلك إلى الله لومٌ ولا قدحٌ في دينه، وقد كان من دعاء النَّبيِّ صلعم كثيرًا أن يقول: ((وقوِّني في سبيلك)) وفي هذا ردٌّ على الصُّوفيَّة في قولهم: إنَّ الوليَّ لا تتمُّ له الولاية إلَّا إذا تمَّ له الرِّضا بجميع ما نزل به ولا يدعو الله في كشف ذلك عنه، فإن دعا فليس من الولاية في حال الكمال، وقد أزروا(3) في قولهم هذا بمحمَّد ◙ وأصحابه، وقد كان إذا نزل به شيءٌ يكثر عليه الدُّعاء والرَّجاء في كشفه.
          وأمَّا قوله: (وَانْقُلْ حُمَّاهَا إلى الْجُحْفَةِ) فكانت الجحفة يومئذٍ دار شركٍ، وكان رسول الله صلعم كثيرًا ما يدعو على من لم يجب إلى الإسلام إذا خاف منه معونة أهل الكفر، وسأل الله أن يبتليهم بما يشغلهم عنه، وقد دعا على قومه أهل مكَّة حين يئس منهم فقال: ((اللَّهُمَّ أعنِّي عليهم بسبعٍ كسبع يوسف)) ودعا على أهل الجحفة بالحمَّى ليشغلهم بها، فلم تزل الجحفة من يومئذٍ أكثر بلاد الله حمَّى، وإنَّه يتَّقى شرب الماء من عينها الذي يقال له: عين حُمٍّ، وقَلَّ من شرب منه إلَّا حُمَّ، وهو متغيِّر الطَّعم.
          وقوله: / (رَفَعَ عَقِيرَتَهُ) يعني: صوته، وأصل ذلك عند العرب أنَّ رجلًا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى وصرخ بأعلى صوته، فقيل لكلِّ رافعٍ صوته: قد رفع عقيرته، ففيه من المعاني جواز هذا النَّوع من الغناء، وهو نشيد الأعراب للسَّفر بصوت رفيعٍ.
          قال الطَّبريُّ: وهذا النَّوع من الغناء هو المطلق المباح بإجماع الحجَّة، وهو الذي غُنِّي به في بيت رسول الله صلعم فلم يَنْهَ عنه، وهو الذي كان السَّلف يجيزون ويسمعون، وروى سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: نِعمَ زاد الرَّاكب الغناء نصبًا. وروى ابن وهبٍ، عن أسامة وعبد الله ابني زيد بن أسلم، عن أبيهما زيدٍ، عن أبيه أن عُمَر بن الخطَّاب قال: الغناء من زاد الرَّاكب. وروى ابن شهابٍ، عن عُمَر بن عبد العزيز أنَّ محمَّد بن نوفل أخبره أنَّه رأى أسامة بن زيدٍ واضعًا إحدى رجليه على الأخرى بمعنى النَّصب.
          قال الطَّبريُّ: وإنَّما تسمِّيه العرب النَّصب لنصب المتغنِّي به صوته وهو الإنشاد له بصوتٍ رفيعٍ. وروى ابن شهابٍ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبَة، عن أبيه أنَّه سمع عبد الله بن الأرقم رافعًا عقيرته يتغنَّى. قال عبد الله بن عُتْبَة: والله ما رأيت رجلًا أخشى لله من عبد الله بن الأرقم. وقد تقدَّم شيءٌ من هذا المعنى في كتاب الصَّلاة في باب: سنَّة العيدين لأهل الإسلام، عند ذكر الجاريتين اللَّتين غنَّتا في بيت عائشة يوم العيد، [خ¦952] وسيأتي ما يحلُّ من الغناء ويحرم في كتاب الاستئذان في باب: كلُّ لهو باطلٌ إذا شغله عن طاعة الله. [خ¦6301]
          وفي حديث عائشة من الفقه تمثُّل الصَّالحين والفضلاء بالشِّعر، وفيه عيادة الجلَّة السَّادة لعبيدهم، لأنَّ بلالًا أعتقه أبو بكر الصِّدِّيق وكانت عائشة تزوره، وكان ذلك قبل نزول الحجاب.
          والإذخِر والجليل ينبتان بمكَّة، وشَامة وطَفِيل جبلان بها، وقال الفاكهانيُّ: بينهما وبين مكَّة نحو ثلاثين ميلًا. قال الخطَّابيُّ: وكنت مرَّةً أحسبهما جبلين حتَّى تبيَّن لي أنَّهما عينان.
          (بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا) بطحان اسمٌ للمكان المنبطح، وهو المستوي المتَّسع، و(يَجرِي نَجلًْا): يريد واسعًا، تقول العرب: استنجل الوادي: إذا اتَّسع جريه، ومنه العين النَّجلاء الواسعة، وطعنةٌ نجلاء أي: واسعةٌ، والأجنُّ والآجن: المتغيِّر.
          قال الأعشى:
وقَلِيبٍ آجِنٍ كَأنَّ مَنَ الرِّيـ                     شِ بأَرجَائِهِ لُقُوطَ نِصَالِ


[1] كذا في (ص)، وهي رواية ابن عساكر وحده ونص الحافظ ابن حجر على خطئها والصواب: ((بيتي)) بدل: ((قبري)) 4/120.
[2] في حاشية (ص): ((نسخة: لما قدم صلعم)).
[3] كذا ترجحت قراءتنا لهذه الكلمة في (ص) وهي كذلك في التوضيح، وبيض لها في المطبوع.