شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من رغب عن المدينة

          ░5▒ باب: مَنْ رَغِبَ عَنِ الْمَدِينَةِ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (سَمِعْتُ الرَّسُولَ صلعم يَقُولُ: تَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ على خَيْرِ مَا كَانَتْ لا يَغْشَاهَا إِلا الْعَوَافِ، يُرِيدُ عَوَافِيَ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ، وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ، يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحْوشًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا على وُجُوهِهِمَا). [خ¦1874]
          وفيه: سُفْيَان بْن أبي زُهَيْرٍ: (سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم يَقُولُ: تُفْتَحُ الْيَمَنُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ، وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَتُفْتَحُ الشَّأْمُ كذلك، وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ كذلك). [خ¦1875]
          قال المُهَلَّب: قوله: (تُتْرَك الْمَدِينَة على خَيْرِ مَا كَانَتْ) يريد على أرخى أحوالها ووجود ثمارها وخيراتها فيأكلها الطَّير والسِّباع.
          قال غيره: وفي هذا برهانٌ من النَّبيِّ صلعم لأنَّه ذكر أهلُ الأخبار أنَّه قد رحل عن المدينة أكثر النَّاس في الفتن التي تعاورتها، وخاف أهلها على أنفسهم، وكانت في عهد الخلفاء أحسن ما كانت من البنيان والعمارة والغرس للنَّخيل والأشجار، فتركت للطَّير والسِّباع، وبقيت مدَّةً على ذلك ثمَّ عاد النَّاس إليها.
          وروي عن مالكٍ في هذا الحديث ((لتتركنَّ المدينة خير ما كانت حتَّى يدخل الكلب، أو الذِّئب، فيعوي على بعض سواري المسجد)) وأكثر المدينة اليوم خرابٌ لا يدخلها أحد منفردًا فيأمن، وهذا ممَّا يلي القبلة والجوف، وليس لأبوابها ثقافٌ ولا غلقٌ، وكذلك أبواب المسجد أكثرها لا تغلق وهي كبيرة. وقد رأى كثير من النَّاس الكلب يعوي على بعض سواري المسجد كما قال صلعم، وأمَّا كونه فيما يستقبل فلا شكَّ فيه بما قد أنذر به أمَّته من عموم الفتن واشتدادها، وانتقاض الخير، وغلبة الباطل وأهله، وأنَّ الإسلام سيعود غريبًا كما بدأ غريبًا، وظهور الأشراط وتواتر المحن حتَّى يتمنَّى الأحياء الموت.
          وقال الأخفش: العوافي واحدها عافيةٌ، وهي التي تطلب أقواتها، والمذكر عافٍ، والعوافي والمعتفي التي تطلب فضلك.
          قال الأعشى:
تَطـُوفُ العُفاة بأبوابِـهِ                     كما تطوفُ النَّصارى ببيتِ الوثَن
          يعني بالعفاة: طلَّاب الحاجات.
          قال المُهَلَّب: وهذا الحديث يدلُّ أنَّ المدينة تُسكن إلى يوم القيامة وإن خلت في بعض الأوقات، لقصد هذين الرَّاعيين بغنمهما إلى المدينة، وهذا يكون قرب قيام السَّاعة، وأنَّ آية قيام السَّاعة عند موت هذين الرَّاعيين أحرى أن تصير غنمهما وحوشًا، فإن قيل: فما معنى قوله: (آخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ) ولم يذكر حشرهما وإنَّما ذكر أنَّهما يخرَّان على وجوههما أمواتًا؟ فالجواب: أنَّه لا يُحشر أحد إلَّا بعد الموت، فهما آخر من يموت بالمدينة وآخر من يحشر بعد ذلك كما قال ◙.
          وقال صاحب «العين»: نعق بالغنم ينعق نعاقًا ونعيقًا إذا صاح بها.
          وأمَّا قوله: (تُفْتَحُ الْيَمَنُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَن أَطَاعَهُم) / يعني: يحملون من المدينة إلى هذه البلاد المفتتحة لسعة العيش فيها، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون. وفيه برهانٌ جليلٌ بصدق الرَّسول صلعم في إخباره بما يكون قبل وقته، فأنجز الله لرسوله ما وعد به أمَّته فَفُتحت اليمن قبل الشَّام وفُتحت الشَّام قبل العراق وكمل ذلك كلُّه.
          وقوله: (وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) يعني: لفضل الصَّلاة في مسجده، التي هي خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سواه، ولما في سكنى المدينة والصَّبر على لأوائها وشدَّتها، فهو خيرٌ لهم ممَّا يصيبون من الدُّنيا في غيرها، والمراد بالحديث: الخارجون عن المدينة رغبةً عنها كارهين لها، فهؤلاء المدينةُ خيرٌ لهم، وهم الذين جاء فيهم حديث(1) ((أنَّها تنفي خبثها)) وأمَّا من خرج من المدينة لحاجةٍ أو طلب معيشةٍ أو ضرورةٍ ونيته الرُّجوع إليها فليس بداخل في معنى الحديث والله أعلم.
          وقوله: (يُبِسُّون) فقال أبو عبيد: يقال في الزَّجر إذا سقت حمارًا أو غيره: بس بس، وهو من كلام أهل اليمن، وفيه لغتان: بَسَسْتُ وأَبْسَسْتُ، فيكون على هذا يَبسون ويُبِسون بفتح الباء وضمِّها. وقال الخليل: بُسَ زجرٌ للبغل والحمار، بضمِّ الباء وفتح السِّين، تقول: بُسَ بُسَ، يقال منه: يَبُسون ويُبِسون. قال أبو عمرٍو الشَّيبانيُّ: يقال: بسَّ فلانٌ كلابه أي: أرسلها.


[1] في الملف: ((الحديث)).