شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: المدينة تنفي الخبث

          ░10▒ باب: الْمَدِينَةُ تَنْفِي الْخَبَثَ.
          فيه: جَابِرٌ: (جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلى النَّبيِّ صلعم فَبَايَعَهُ على الإسْلامِ، فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ مَحْمُومًا، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيعَتي، فَأَبَى، ثَلاثَ مِرَاتٍ، فَقَالَ: الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا). [خ¦1883]
          وفيه: زَيْدٌ: (لَمَّا خَرَجَ الرَّسُولُ صلعم إلى أُحُدٍ، رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: نَقْتُلُهُمْ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لا نَقْتُلُهُمْ فَنَزَلَتْ: {فَمَا لَكُمْ في الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}[النساء:88]وَقَالَ الرَّسُولُ صلعم: إِنَّهَا تَنْفِي الرِّجَالَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ). [خ¦1884]
          قال بعض العلماء: كان هذا الأعرابيُّ من المهاجرين، فأراد أن يستقيل النَّبيَّ صلعم في الهجرة فقط، ولم يُرد أن يستقيله في الإسلام، فأبى ◙ ذلك في الهجرة، لأنَّها عونٌ على الإثم، وكان ارتدادهم عن الهجرة من أكبر الكبائر، ولذلك دعا لهم الرَّسول صلعم فقال: ((اللَّهُمَّ أمضِ لأصحابي / هجرتهم، ولا تردَّهم على أعقابهم)).
          في هذا من الفقه أنَّ من عقد على نفسه أو على غيره عقد الله فلا يجوز له حلُّه، لأنَّ في حلِّه خروجٌ إلى معصية الله، وقد قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:1]والدَّليل على أنَّه لم يرد الارتداد عن الإسلام أنَّه لم يرد حلَّ ما عقده إلَّا بموافقة النَّبيِّ صلعم على ذلك، ولو كان خروجه عن المدينة خروجًا عن الإسلام لقتله ◙ حين خرج، وإنَّما خرج عاصيًا، ورأى أنَّه معذورٌ لِمَا نزل به من الوباء، ولعلَّه لم يعلم أنَّ الهجرة فرض عليه وكان من الذين قال الله فيهم: {وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ على رَسُولِهِ}[التوبة:97]فقال فيه ◙: (إنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا).
          فإن قيل: فإنَّ المنافقين قد سكنوا المدينة وماتُوا فيها ولم تنفهم؟
          قيل: إنَّ المنافقين كانت دارهم ولم يسكنوها اغتباطًا بالإسلام ولا حبًّا له، وإنَّما سكنوها لما فيها من أصل معاشهم، ولم يُرد ◙ بضرب المثل إلَّا من عقد الإسلام راغبًا فيه ثمَّ خبث قلبه، ولم يصحَّ عندك أنَّ أحدًا ممَّن لم تكن له المدينة دارًا فارتدَّ عن الإسلام ثمَّ اختار السُّكنى فيها، بل كلُّهم فَرَّ إلى الكفر راجعًا، فبمثل أولئك ضرب رسول الله المثل.
          وقال المُهَلَّب: كان المنافقون السَّاكنون بالمدينة قد ميَّزهم الله كأنَّهم بارزون عنها، لما وسمهم به من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في الصَّدَقَاتِ}[التوبة:79]، و{الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}[التوبة:61]وبقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ الْقَوْلِ}[محمد:30]فكانوا معروفين معيَّنين، وأبقاهم صلَى اللهُ عليهِ لئلَّا يقول النَّاس: إنَّ محمدًا يقتل أصحابه أو ينفيهم، والنَّفي كالقتل.
          وممَّا يدلُّ على ذلك قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ في الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}[النساء:88]فَبَيَّنَ منكِرًا عليهم اختلافَهم في قتلهم، فعرَّفهم الله أنَّه أركسهم بنفاقهم، فلا يكون لهم صنعٌ ولا جمعٌ، ولا يُسمع لهم قولٌ، مع أنَّه قد ختم الله أنَّهم لا يجاورونه فيها إلَّا قليلًا، فنفتهم المدينة بعده ◙ لخوفهم القتل، قال الله تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}[الأحزاب:61]فلم يأمنوا فخرجوا، فصحَّ إخبار الرَّسول أنَّها تنفي خبثها، لكن ليس ذلك ضربةً واحدةً، لكن الشَّيء بعد الشَّيء حتَّى يخلص أهلها الطَّيِّبين النَّاصعين وقت الحاجة إليهم في العلم، لأنَّهم في حياته ◙ مستغنًى عنهم، فلمَّا احتيج إليهم بعده في العلم حفظتهم بركة المدينة فنفت خبثها.
          قال غيره: وقوله: (الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ) إنَّما هو تمثيل منه وتنظير، ففيه دليلٌ على جواز القياس بين الشَّيئين إذا اشتبها في المعنى، فشبَّه رسول الله المدينة في نفيها مَنْ خَبُث قلبه بالكير الذي ينفي خبث الحديد حتَّى يصفو، وقوله: (يَنصَعُ طَيِّبُها) هو مثلٌ ضربه للمؤمن المخلص السَّاكن فيها، الصَّابر على لَأوائها وشدَّتها مع فراق الأهل والمال والتزام المخافة من العدوِّ، فلمَّا باع نفسه من الله والتزم هذا بانَ صدقُه، ونصع إيمانه وقوي، لاغتباطه بسكنى المدينة وتقرُّبه من رسول الله كما ينصع ريح الطِّيب فيها ويزيد عبقًا على سائر البلاد، خصوصيَّةً خصَّ الله بها بلدة رسوله التي اختار تربتها لمباشرة جسده الطَّيِّب المطهَّر صلَى اللهُ عليهِ، وقد جاء في الحديث أنَّ المؤمن يقبر في التُّربة التي خلق منها، فكانت بهذا تربة المدينة أفضل التُّرب كما هو صلَى اللهُ عليهِ أفضل البشر، فلهذا _والله أعلم_ تتضاعف ريح الطِّيب فيها على سائر البلاد.