شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس

          ░2▒ باب: فَضْلِ الْمَدِينَةِ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (قَالَ الرَّسولُ صلعم: أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ يَثْرِبُ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ). [خ¦1871]
          قوله: (أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ) يريد أمرت بالهجرة إليها.
          وقوله: (تَأْكُلُ الْقُرَى) يعني: يفتتح أهلها القرى فيأكلون أموالهم، ويسبون ذراريهم، ويقتلون مقاتلتهم، وهذا من فصيح كلام العرب تقول: أكلنا بني فلان، وأكلنا بلد كذا: إذا ظهروا على أهله وغلبوهم.
          قال الخطَّابيُّ: (تَأْكُلُ الْقُرَى) يريد أنَّ الله ينصر الإسلام بأهل المدينة وهم الأنصار، وتفتح على أيديهم القرى، ويغنمها إيَّاهم فيأكلونها، وهذا في الاتِّساع والاختصار كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}[يوسف:82]يريد أهل القرية، فكان رسول الله صلعم قد عرض نفسه على قبائل العرب أيُّهم ينصره فيفوز بالفخر في الدُّنيا والثَّواب في الآخرة، فلم يجد في القوم من يرضى بمعاداة من جاوره ويبذل نفسه وماله لله، فمثَّل الله المدينة في منامه فرأى أنَّه يؤمر بالهجرة إليها، فوصف ذلك لأبي بكر، وقد كان عاقد قومًا من أهلها، وسألوه أن ينظروا فيما يريدون أن يعقدوا(1) معه ◙، فخرج مع أبي بكر للمدينة، ففتح الله منها جميع الأمصار حتَّى مكَّة التي كانت موطنه.
          قال أبو عبد الله بن أبي صُفرة: وهذا الحديث حجَّة لمن فضَّل المدينة على مكَّة، لأنَّها هي التي أدخلت مكَّة وسائر القرى في الإسلام، فصارت القرى ومكَّة في صحائف أهل المدينة.
          وذهب مالكٌ وأهل المدينة إلى أنَّها أفضل من مكَّة. وقال الشَّافعيُّ: مكَّة أفضل منها. وقد تقدَّم القول في ذلك في كتاب الصَّلاة في قوله: ((صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سواه إلَّا المسجد الحرام)). [خ¦1190]
          وقوله: (يَقُولُونَ يَثْرِبُ) كره أن يسمِّي باسمها في الجاهليَّة وسمَّاها (المدينة) فلا تسمَّى بغير ما سمَّاها النَّبيُّ صلعم وكانوا يسمُّونها يثرب باسم أرضٍ بها فغيَّر رسول الله اسمها وسمَّاها ((طَيبة)) كراهية التَّثريب، وإنَّما سمِّيت في القرآن يثرب على وجه الحكاية لتسمية المشركين، وقد روي عنه ◙ أنَّه ((من قال: يثرب فكفَّارته أن يقول المدينة عشر مرات)) يريد بذلك التَّوكيد أن يقال لها: المدينة، وصارت مُعرَّفة بالألف واللَّام، لأنَّها انفردت بجميع خصائل الإسلام، ولا يقول أحد المدينة لبلد فيعرف ما يريد القائل إلَّا لها خاصَّةً.


[1] في (ص): ((أن يعقدون)) والمثبت من المطبوع.