شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا يدخل الدجال المدينة

          ░9▒ بَاب: لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ الدَّجَّالُ.
          فيه: أَبُو بَكْرَةَ قَالَ: (قَالَ النَّبيُّ ◙: لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ تِسَعَةُ أَبْوَابٍ على كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ). [خ¦1879]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (قَالَ الرَّسولُ صلعم: على أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلائِكَةٌ لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلا الدَّجَّالُ). [خ¦1880]
          وفيه: أَبو سَعِيد: (حَدَّثَنَا النَّبيُّ صلعم طَوِيلا عَنِ الدَّجَّالِ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنْه قَالَ: يَأْتِي الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ فَنَزَلَ بَعْضَ السِّبَاخِ التي بِالْمَدِينَةِ، فَيَنزلُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الذي حَدَّثَنَا عَنْكَ رَسُولُ اللهِ صلعم حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ في الأمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لا، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ: حِينَ يُحْيِيهِ وَاللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ مِنِّي بَصِيرَةً الْيَوْمَ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: أَقْتُلُهُ فَلا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ). [خ¦1882]
          وفيه: أَنَسٌ: (قَالَ ◙: ما مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، لَيْسَ مِنْ نِقَابِهَا إِلَّا عَلَيْهِا الْمَلائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، فَيُخْرِجُ إِلَيهِ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ). [خ¦1881]
          قال الأَخْفَش: أنقاب المدينة طرقها، الواحد نَقبٌ، وهو من قول الله: {فَنَقَّبُوا في الْبِلاَدِ}[ق:36]أي: جعلوا فيها طرقًا ومسالك. قال غيره: ونِقاب أيضًا جمع نَقبٍ، كِكلابٍ وكَلبٍ، ويجمع فعلٌ اسمًا على غير فِعالٍ وفعولٍ قياسًا مطَّردًا.
          وفي هذه الأحاديث برهانٌ ظهر إلينا صحَّته، وعلمنا أنَّ ذلك من بركة دعائه صلَى اللهُ عليهِ للمدينة، وقد أراد عمر والصَّحابة أن يرجعوا إلى المدينة حين وقع الوباء بالشَّام، ثقةً منهم بقول رسول الله صلعم الذي أمنهم من دخول الطَّاعون بلدهم، ولذلك نوقن أنَّ الدَّجال لا يستطيع دخولها البتَّة، وهذا فضل عظيم للمدينة.
          وقد أخبر الله تعالى أنَّه يوكل الملائكة بحفظ من شاء من عباده من الآفات والعدوِّ والفتن، فقال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ}[الرعد:11]يعني: بأمر الله لهم بحفظه، وما زالت الملائكة تنفع المؤمنين بالنَّصر لهم والدُّعاء والاستغفار ويستغفرون لذنوبهم، وسأذكر معنى حديث الدَّجال وفتنته للنَّاس في كتاب الفتن إن شاء الله.
          وفي حديث أنسٍ أنَّ الدَّجَّال لا يدخل مكَّة أيضًا، وهذا فضلٌ كبيرٌ لمكَّة والمدينة على سائر الأرض، فإن قيل: إنَّ قوله ◙: (لَا يَدخُل المَسِيحُ) يعارضه قوله في حديث أنسٍ: (تَرْجُفُ المدِينَةِ بِأَهلِها ثَلَاثُ رَجَفَاتٍ) والرَّجف رعبٌ، قال المُهَلَّب: ليس يعارض، وإنَّما الرَّجفة تكون من أهل المدينة على من بها من المنافقين والكافرين فيخرجونهم من المدينة بإخافتهم إيَّاهم تعاطيًا عليهم وعلى الدَّجال، فيخرج المنافقون إلى الدَّجال فرارًا من أهل المدينة ومن قوَّتهم عليهم، والله أعلم.