شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب[حب المدينة والدعاء لها]

          بَاب
          فيه: أَنَسٌ: (قَالَ النَّبيُّ ◙: اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ. [خ¦1885]
          وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَنَظَرَ إلى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ، أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ، وَإِنْ كَانَ على دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا).
          استدلَّ بعض النَّاس على أنَّ المدينة أفضل من مكَّة بدعاء الرَّسول صلعم للمدينة بضعف دعائه لمكَّة، / وقال آخرون ممَّن يرى أن مكَّة أفضل من المدينة: لو كان تضعيف الدُّعاء للمدينة دليلًا على فضلها على مكَّة، لكانت الشَّام واليمن أفضل من مكَّة، لأن الرَّسول صلعم قد كرَّر الدُّعاء للشَّام واليمن مرَّاتٍ، وهذا لا يقوله مسلمٌ، روى ابن عمر: أن الرَّسول صلعم قال: ((اللَّهُمَّ بارك لنا في شامنا، اللَّهُمَّ بارك لنا في يمننا، قالها ثلاثًا)). وهذا اعتراضٌ غير لازمٍ، لأنَّ الأمَّة مجمعةٌ أنَّ مكَّة أفضل من الشَّام واليمن وجميع الأرض غير المدينة.
          فلمَّا تقرَّر هذا لم يكن تكرير الدُّعاء للشَّام واليمن موجبًا لفضلهما على مكَّة، لأنَّه لم يقصد بالدُّعاء لهما التَّفضيل على مكَّة، وإنَّما قصد التَّفضيل لهما على نجدٍ، وإنَّما كان يصحُّ هذا الاعتراض لو قرن بالدُّعاء للشَّام واليمن ثلاث مرَّاتٍ الدعاءَ لمكَّة أقلَّ من ذلك، وإنَّما في حديث ابن عمر الشَّام واليمن أفضل من نجدٍ خاصَّة، لتكريره الدُّعاء للشَّام واليمن دون نجدٍ، فكذلك تكريره الدُّعاء للمدينة دون مكَّة، فوجب فضلها على مكَّة، والله أعلم.
          واحتجَّ من فضَّل المدينة بقوله: (حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا) يريد من حبِّه للمدينة، قال: فقد خصَّها الله بفضائل كثيرة منها: أنَّ الله اختارها دارًا لنبيِّه أفضل خلقه، وجعلها منزل وحيه، وحَباها بقبره، ومنها نشر الله دينه وبَلَّغ شريعته، إلى ما لا يحصى من فضائلها، وتعجيل سَيره صلَى اللهُ عليهِ إذا نظر إليها من أجل أنَّ قرب الدَّار يجدِّد الشَّوق للأحبَّة والأهل، ويؤكِّد الحنين إلى الوطن، وفي رسول الله الأسوة الحسنة.