عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض والوديعة فهو أحق به
  
              

          ░14▒ (ص) بابٌ إِذَا وَجَدَ مَالَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ فِي الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالْوَدِيعَةِ؛ فَهْوَ أَحَقُّ بِهِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَر فيه إذا وجد شخصٌ ماله عند مفلسٍ، وهو الذي حكم الحاكمُ بإفلاسه.
          قوله: (فِي الْبَيْعِ) يتعلَّق بقوله: (وَجَدَ) صورتُه: أن يبيع رجلٌ متاعًا لرجلٍ، ثُمَّ أفلس الرجل الذي اشتراه، ووجد البائع متاعَه الذي باعه عنده؛ فهو أحقُّ به مِن غيره [مِنَ الغرماء، وفيه خلافٌ نذكره عن قريبٍ.
          قوله: (وَالْقَرْضِ) صورته أن يُقرض لرجلٍ مِمَّا يصحُّ فيه القرض، ثُمَّ أفلس المُستقرِض، فوجد المُقرِضُ ما أقرضه عنده؛ فهو أحقُّ به مِن غيره]
، وفيه الخلاف أيضًا.
          قوله: (وَالْوَدِيعَةِ) صورته: أن يُودِع رجلٌ عند رجلٍ وديعةً، ثُمَّ أفلس المودَع فالمودِع _بكسر الدال_ أحقُّ به مِن غيره بلا خلافٍ، وقيل: إدخال البُخَاريِّ القرضَ والوديعةَ مع الدَّين إمَّا لأنَّ الحديث مطلقٌ، وإمَّا لأنَّهُ واردٌ في البيع، والحكم في القرض والوديعة أولى؛ أَمَّا الوديعة فملك ربِّها لم ينتقل، وأَمَّا القرض فانتقال ملكه عنه معروفٌ، وهو أضعف مِن تمليك المعاوضة، فإذا بطَّلَ التفليسُ ملك المعاوضة القويّ بشرطه، فالضعيفُ أولى.
          قُلْت: قوله: (والحكم في القرض والوديعة أولى) غيرُ مسلَّمٍ في القرض؛ لأنَّه انتقل من ملك المقرِض ودخل في ملك المُستقرِضِ، فكيف يكون المقرض أولى مِن غيره، وليس له فيه ملكٌ؟ واعترف هذا القائل أيضًا أنَّ القرض انتقل مِن ملك المُقرض.
          قوله: (فَهْوَ أَحَقُّ بِهِ) جواب (إذا) التي تضمَّنت معنى الشرط، فلذلك دخلت الفاء في جوابها، والضمير في (به) يرجع إلى قوله: (ماله) يعني: أحقُّ به مِن غيره مِن غرماء المفلس.
          (ص) وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَفْلَسَ وَتَبَيَّنَ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ، وَلَا بَيْعُهُ، وَلَا شِرَاؤُهُ.
          (ش) (الْحَسَنُ) هو البَصْريُّ.
          قوله: (إِذَا أَفْلَسَ) أي: رجلٌ أو شخصٌ، فالقرينة تدلُّ عليه.
          قوله: (وَتَبَيَّنَ) أي: ظهر إفلاسه عند الحاكم، فلا يجوز عتقه... إلى آخره، وقيَّد به لأنَّه ما لم يتبيَّن إفلاسه عند الحاكم يجوز تصرُّفه في الأشياء كلِّها، وأَمَّا عند التبيُّن ففيه خلافٌ؛ فعند إبراهيم النَّخَعِيِّ: بيع المحجور وابتياعه جائزٌ، وعند أكثر العلماء: لا يجوز إلَّا إذا وقع منه البيع لوفاء الدَّين، وعند البعض: يُوقَف، وبه قال الشَّافِعِيّ في قولٍ، واختلفوا في إقراره؛ فالجمهور على قبوله.
          (ص) وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَضَى عُثْمَانُ ☺ أَنَّ مَنِ اقْتَضَى مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يُفْلِسَ فَهْوَ لَهُ، وَمَنْ عَرَفَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهْوَ أَحَقُّ بِهِ.
          (ش) (عُثْمَانُ) هو ابن عفَّان.
          قوله: (مَنِ اقْتَضَى مِنْ حَقِّهِ) معناه: أنَّ مَن كان له حقٌّ عند أحدٍ فأخذه قبل أن يفلِّسَه الحاكم؛ فهو له لا يتعرَّض إليه أحدٌ مِن غرمائه خاصَّةً، بل كلُّ مَن أثبت عليه حقًا يطالبه، بخلاف ما إذا عرف أحدٌ متاعه بعينه أنَّهُ عنده، فَإِنَّهُ أحقُّ به مِن غيره مِن سائر الغرماء، وبه أخذ الشَّافِعِيُّ ومالكٌ وأحمد على ما يجيء بيانه، وهذا التعليق وصله أبو عُبَيد في كتاب «الأموال» عن إسماعيل بن جعفر قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن أبي حرملة عن سعيد بن المُسَيَِّبِ قال: أفلس مولًى لأمِّ حبيبة، فاختُصِم فيه إلى عثمان ☺ ، فقضى أنَّ مَن كان اقتضى مِن حقِّه شيئًا قبل أن يتبيَّن إفلاسه؛ فهو له، ومَن عرف متاعه بعينه؛ فهو له.