عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب أداء الديون
  
              

          ░3▒ (ص) باب أَدَاءِ الدُّيُونِ.
          (ش) أي: هذا باب في بيان وجوب أداء الديون.
          قوله: (الدُّيُونِ) بلفظ الجمع هو في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره: <باب أداء الدين> بالإفراد.
          (ص) وقال الله تعَالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء:58].
          (ش) ساق الأصيليُّ وغيره الآيةَ كلَّها، وأبو ذرٍّ اقتصر على قوله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[النساء:58]، واختلف المفسِّرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وأكثرهم على أنَّها نزلت في شأن عثمان بن طلحة الحَجَبيِّ العَبْدَريِّ، سادن الكعبة، حين أخذ عليُّ بن أبي طالبٍ ☺ منه مفتاحَ الكعبة يوم الفتح، ذكره ابن سَعدٍ وغيره، وقال مُحَمَّد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حَوْشَب: إِنَّها نزلت في الأمراء؛ يعني: الحُكَّام بين الناس، وفي الحديث: «إنَّ الله مع الحاكِم ما لم يَجُرْ، فإذا جار وَكَّله الله إلى نفسه»، وقيل: نزلت في السلطان يعِظ النساء، وقال عليُّ بن أبي طلحة عنِ ابن عَبَّاس: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[النساء:58] قال: يدخل فيه وعظ السلطان النساء يوم العيد، وقال شُريحٌ ☼لأحد الخصمين: أعطِ حقَّه، فإنَّ الله تعالى قال: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[النساء:58]، قال شُرَيح: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}[البقرة:280] إِنَّما هذا في الربا خاصًّة، ورَبَطَ المدْيان إلى سارية، ومذهب الفقهاء: أنَّ الآية عامَّة في الربا وغيره، وقال ابن عَبَّاسٍ: الآية عامَّة، قالوا: هذا يعمُّ جميع الأمانات الواجبة على الإنسان مِن حقوق الله ╡ على عباده؛ مِنَ الصلوات والزكوات والكفَّارات والنذور والصيام وغير ذلك، فهو مؤتمن عليه، ولا يطَّلع عليه العباد، ومِن حقوق العباد بعضهم على بعض؛ كالودائع وغيرها، مِمَّا يأتمنون فيه بعضُهم على بعض، فأمر الله ╡ بأدائها، فمَن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يومَ القيامة، كما ثبت في الحديث الصحيح: أنَّ رسول الله صلعم قال: «لَتُؤَدُّنَّ الحقوق إلى أهلها حَتَّى يقتصَّ للشاة الجمَّاء مِنَ القَرناء»، ثُمَّ إنَّ / البُخَاريَّ أَدَخَلَ الدَّيْن في الأمانة لثبوت الأمر بأدائه؛ لأنَّ الأمانة فُسِّرت في الآية بالأوامر والنواهي، فيدخل فيها جميعُ ما يتعلَّق بالذمَّة وما لا يتعلَّق.
          قوله: ({أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}) أي: بأن تحكموا بالعدل.
          قوله: ({إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ}) قال الزَّمَخْشَريُّ: {نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ} إمَّا أن تكون منصوبةً موصوفة: بـ{يعظكم به}، وإمَّا أن تكون مرفوعة موصولة؛ كأنَّه قيل: نِعم شيئًا يعظكم به، أو: نِعم الشيء الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح محذوفٌ؛ أي: نِعمَ ما يعظكم به ذاك، وهو المأمور به مِن أداء الأمانات والعدل في الحكم، وقُرِئ: {نَعمَّا} بفتح النون.
          قوله: ({إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}) هما مِن أوصاف الذات، والسمع إدراك المسموعات حال حدوثها، والبصرُ إدراك المبصرات حال وجودها، وقيل: إنَّهما في حقِّه تعالى صفتان تنكشف بهما المسموعات والمبصرات انكشافًا تامًّا، ولا يحتاج فيهما إلى آلة؛ لأنَّ صفاته مخالفة لصفات المخلوقين بالذات، فافهم.