عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب رؤيا يوسف
  
              

          ░6▒ (ص) بَابُ رُؤْيَا يُوسُفَ ◙ .
          (ش) أي هذا بابٌ في بيان رؤيا يوسف ◙ ، كذا وقع للأكثرين، ووقع للنَّسَفِيِّ: <يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرَّحْمَن، صلوات الله عليهم وسلامه>.
          (ص) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ. قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[يوسف:4-6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[يوسف:100-101].
          (ش) (وَقَولِهِ) بالجرِّ عطفًا على ما قبله، وسيقت هذه الآيات كلُّها إلى قوله: {بِالْصَّالِحِينَ} في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذرٍّ والنَّسَفِيِّ ساق إلى <{سِاجِدِينَ}> ثُمَّ قال: <إلى قوله: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ}>.
          قوله: ({إِذْ قَالَ}) أي: اذكُر حين قال ({يُوسُفُ لِأَبِيْهِ}) يعني: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ‰ .
          قوله: ({أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا}) نصبٌ على التفسير، وأسماؤها: حَرْثان، والطارق، والذَّيَّال، وقابس، وعَمودان، والفَلِيق، والمُصَبِّح، والضَّروج، والفرغ، ووثَّاب، وذو الكتِفَين.
          قوله: ({رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}) ولم يقل: رأيتها لي ساجدةً؛ لأنَّه لمَّا وصفها بما هو خاصٌّ بالعقلاء _وهو السجود_ أجرى عليها حكمهم كأنَّها عاقلةٌ، ورأى يوسف ◙ ، هذا وهو ابن اثنتَي عشرة سنةً، وقيل: كان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنةً، وقيل: ثمانون سنةً.
          قوله: ({عَلَى إِخْوَتِكَ}) وهم يهوذا، ورُوبِيل، وزبالون، وشمعون، ولاوي، ويشخر، ودَينَة، ودان، ونفتالي، وجاد، وآشر.
          قوله: ({فَيَكِيدُوا لَكَ}) أي: فيبغوك الغوائل ويحتالوا في هلاكك.
          قوله: ({يَجْتَبِيكَ}) أي: يصطفيك.
          قوله: ({مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}) يعني: تعبير الرؤيا.
          قوله: ({وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}) يعني: يوصل لك نعمة الدنيا بنعمة الآخرة.
          قوله: ({وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ}) أي: أهله، وهم نسله وغيرهم.
          قوله: ({أَبَوَيْكَ}) أراد بهما الجدَّ وأبا الجدِّ.
          قوله: ({هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ}) وهو قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا}.
          قوله: ({أَحْسَنَ بِي}) يقال: أحسن إليه وبِه.
          قوله: ({مِنَ الْبَدْوِ}) أي: مِنَ البادية؛ لأنَّهم كانوا أهل عملٍ وأصحاب مواشٍ، ينتقلون في المياه والمناجع.
          قوله: ({مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ}) أي: أفسد بيننا وأغرى.
          قوله: ({لَطِيفٌ}) ذو لطفٍ وصنعٍ ({لِما يَشَاء}) عالمٌ بدقائق الأمور.
          قوله: ({مِنَ الْمُلْكِ}) أي: ملك مِصر، و({تَأْوِيْلِ الأَحَادِيثِ}) تعبير الرؤيا.
          قوله: ({فَاطِرَ السَّمَوَاتِ}) يعني: يا فاطر السماوات والأرض؛ ({أَنْتَ وَلِيِّي}) أي: متولِّي أمري.
          قوله: ({تَوَفَّنِي}) يعني: اقبِضني إليك ({وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}) يعني: بآبائي الأنبياء ‰ ، ثُمَّ توفَّاه الله تعالى بمصر، ودُفِنَ في النيل في صندوقٍ مِن رُخامٍ، ومات وعمره مئةٌ وعشرون سنةً.
          (ص) قال أبُو عَبْدِ الله: فَاطِرٌ وَالْبَدِيعُ وَالْبَارِئُ وَالْخَالِقُ وَاحِدٌ.
          (ش) (أَبُو عَبْدِ الله) / هو البُخَاريُّ نفسه.
          وأشار بأنَّ معنى هذه الألفاظ الأربعة واحد، وأشار بـ(الفاطر) إلى المذكور في قوله: {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}[يوسف:101] وقيل: دعوى البُخَاريِّ الوحدة في معنى هذه الألفاظ ممنوعة عند المحقِّقين، وردَّ عليهم بعضهم بأنَّ البُخَاريَّ لم يَرِد بذلك أنَّ حقائق معانيها متوحِّدة، وإِنَّما أراد أنَّها ترجع إلى معنى واحد، وهو إيجاد الشيء بعد أن لم يكن.
          قُلْت: قوله: (وَاحِدٌ) ينافي هذا التأويل.
          ومعنى (الفَاطِر) مِن الفطر؛ وهو الابتداء والاختراع، قاله الجَوْهَريُّ، ثُمَّ قال: قال ابن عَبَّاس: كنتُ لا أدري ما {فَاطِرِ الْسَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} حَتَّى أتاني أعرابيَّان يختصمان في بئرٍ، فقال أحدهما: أنا فطرتُها؛ أي: أنا ابتدأتها.
          قوله: (وَالْبَدِيعُ) معناه: الخالق المخترع لا عن مثالٍ سابقٍ، (فَعيل) بمعنى (مُفعِل) يقال: أبدع فهو مُبدِع، وكذا في بعض النُّسَخ: <مبدع>.
          قوله: (وَالْبَارِئُ وَالْخَالِقُ) قال الطِّيبيُّ: قيل: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}[الحشر:24] ألفاظ مترادفة، وهو وَهْمٌ؛ لأنَّ {الْخَالِقُ} مِن الخلق، وأصله التقدير المستقيم، و{الْبَارِئُ} مأخوذٌ مِن البُرْءِ، وأصله خلوص الشيء عن غيره، إمَّا على سبيل التفَصِّي منه، وعليه قولهم: بَرِئَ مِن مرضه، وإمَّا على سبيل الإنشاء منه، ومنه: برأ الله النَّسمة، وهو البارئ لها، وقيل: (البارئ) هو الَّذي خلق الخلق بريئًا مِن التفاوت والتنافر.
          قوله: (الْبَارِئُ) ويروى: <البادئ> وقيل: لبعضهم: «البارئ» بالرَّاء، ولأبي ذرٍّ والأكثر: <البادئ> بالدَّال [بدل الراء، والهمز ثابت فيهما، وزَعْمُ بعض مَن عاصرناه مِن الشُّرَّاح أنَّ الصَّواب بالراء، وروايةِ الدال] وَهْمٌ، وردَّ عليه بعضهم بأنَّه وقع في بعض طرق الأسماء الحسنى (المبدئ) وفي (سورة العنكبوت) {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}[العنكبوت:19] ثُمَّ قال: {فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}[العنكبوت:20] فاسم الفاعل مِن الأَوَّل (مبدئ) ومِن الثاني (بادئ) انتهى.
          قُلْت: في هذا الردِّ نَظَرٌ لا يخفى.
          (ص) مِنَ الْبَدْوِ بَادِيَةٍ.
          (ش) أشار به إلى ما ذُكِرَ آنفًا مِن قوله: {وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ}[يوسف:100] أي: من البادية، وقد ذكرناه.