عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

حديث: لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركًا في حاجته
  
              

          6720- (ص) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طاوُوس: سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ ◙ : لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً، كُلٌّ تَلِدُ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: _قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي الْمَلَكَ_ قُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَنَسِيَ، فَطَافَ بِهِنَّ، فَلَمْ تَأْتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ بِوَلَدٍ إِلَّا وَاحِدَةٌ بِشِقِّ غُلَامٍ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ قَالَ: «لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ؛ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا فِي حَاجَتِهِ» وَقَالَ مرَّة: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : «لَوِ اسْتَثْنَى».
          (ش) مطابقته للترجمة في قوله: (لَوِ اسْتَثْنَى) أي: لو قال: إن شاء الله.
          و(عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) هو ابن المدينيِّ، و(سُفْيَانُ) هو ابن عُيَيْنة، و(هِشَامُ بْنُ حُجَيْرٍ) بِضَمِّ الحاء المُهْمَلة وفتح الجيم وسكون الياء آخر الحروف وبالراء، المَكِّيُّ، وقال الكَرْمانيُّ: لم يتقدَّم ذكرُه؛ يعني: فيما مضى.
          والحديث مضى بغير هذا الطريق في (الجهاد) في (باب مَن طلب الولد للجهاد) فَإِنَّهُ قال هناك: (وقال الليث: حدَّثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرَّحْمَن بن هُرمُز: سمعتُ أبا هُرَيْرَة عن رسول الله صلعم قال: «قال سليمان بن داود ♂ : لأطوفنَّ الليلة على مئة امرأةٍ أو تسع وتسعين...») الحديث.
          قوله: (لَأَطُوفَنَّ) اللَّام جواب القسم؛ كأنَّه قال مثلًا: والله لأطوفنَّ، والنون فيه للتأكيد، يقال: طاف به؛ بمعنى: ألمَّ به وقارَبَه.
          قوله: (اللَّيْلَةَ) نصب على الظرف.
          قوله: (عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً) وقال الكَرْمانيُّ: قيل: ليس حديثٌ في «الصحيح» أكثرَ اختلافًا في العدد مِن حديث سليمان ◙ ، فيه: مئة، وتسعة وتسعون، وستُّون، ولا منافاة؛ إذ لا اعتبارَ لمفهوم العدد.
          قوله: (كُلٌّ تَلِدُ) أي: كلُّ واحدة منهنَّ تلد (غُلَامًا).
          قوله: (بِشِقِّ غُلَامٍ) بكسر الشين المُعْجَمة وتشديد القاف؛ أي: نصف غلام، وقال الكَرْمانيُّ: الحنث معصية، كيف يجوز على سليمان ◙ ؟ ثُمَّ قال: لم يكن باختياره، أو هو صغيرةٌ معفوٌّ عنها.
          قُلْت: فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأنَّه حَمَلَ الحِنث على معناه الحقيقيِّ، وليس كذلك، بل معناه هنا عدمُ وقوع ما أراد، وفيه نسبة وقوع الصغيرة مِنَ النَّبِيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفيه ما فيه، وأَوَّلُ الحديث موقوفٌ على أبي هُرَيْرَة، ولكنَّه رفعه بقوله: (يَرْوِيهِ قَالَ: «لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ؛ لَمْ يَحْنَثْ») لأنَّ قوله: (يَرْوِيهِ) كناية عَن رفع الحديث، وهو كما لو قال مثلًا: قال رسول الله صلعم ، وقد وقع في رواية الحُمَيْديِّ التصريحُ بذلك، ولفظه: قال رسول الله صلعم ...، وكذا أخرجه / مسلمٌ عن ابن أبي عُمَر عن سفيان.
          قوله: (لَمْ يَحْنَثْ) بالثاء المُثَلَّثة، المراد بعدم الحنث وقوعُ ما أراد، وقال الكَرْمانيُّ: ويُروى: <لم يَخِب> بالخاء المُعْجَمة، مِنَ الخَيبة؛ وهي الحِرمان.
          قوله: (وَكَانَ دَرَكًا) بفتح الراء وسكونها؛ أي: إدراكًا، أو لحاقًا، أو بلوغ أملٍ في حاجته.
          قوله: (وَقَالَ مَرَّةً) أي: قال أبو هُرَيْرَة: قال رسول الله صلعم : («لَوِ اسْتَثْنَى») [معناه أيضًا: لو قال: إن شاء الله، ولكن قال مَرَّةً: «لو قال: إن شاء الله» ومَرَّة أخرى قال: «لو استثنى»]، فاللفظ مختلفٌ والمعنى واحد، وجواب (لو) محذوفٌ؛ أي: لو استثنى لم يحنَث، وقال ابن التِّين: ليس الاستثناء في قصَّة سليمان ◙ الذي يرفع حكم اليمين ويحلُّ عقده، وإِنَّما هو بمعنى الإقرار لله بالمشيئة والتسليم لحكمه، فهو نحوُ قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ}[الكهف:23-24] وإِنَّما يرفعُ حكم اليمين إذا نوى به الاستثناء في اليمين.
          (ص) وحدَّثنا أبُو الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ مِثْلَ حَدِيثٍ أبي هُرَيْرَةَ.
          (ش) القائل بقوله: (وَحَدَثَنَا) هو سفيان بن عُيَيْنَةَ، وقد أفصَحَ به مسلمٌ في روايته، وهو موصولٌ بالسند الأَوَّل، و(أَبُو الزِّنَادِ) بالزاي والنون، عبد الله بن ذكوان، وَ(الْأَعْرَجُ) هو عبد الرَّحْمَن بن هُرمُز.
          قوله: (مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ) أي: مثلَ الذي ساقه مِن طريق طاووس عَن أبي هُرَيْرَة، وأشار بهذا إلى أنَّ لسفيان فيه سنَدَانِ إلى أبي هُرَيْرَة؛ هشام عن طاوُوس، وأبو الزِّناد عن الأعرج.